في خضم التحولات السياسية والاقتصادية التي تشهدها سوريا بعد سقوط سلطة الأسد في كانون الأول 2024، برز توجه جديد نحو تبني نموذج «اقتصاد السوق الحر» كخيار استراتيجي لإعادة بناء الاقتصاد الوطني. هذا التحول يمثل قطيعة مع عقود من السياسات الاقتصادية المركزية، ويثير تساؤلات حول مدى قدرة سوريا على تطبيق هذا النموذج بنجاح في ظل التحديات الراهنة.
ما هو اقتصاد السوق الحر؟
اقتصاد السوق الحر (Free Market Economy) هو نظام اقتصادي يعتمد على حرية العرض والطلب في تحديد الأسعار، مع تدخل حكومي محدود. تقوم مبادئه على حرية التبادل التجاري، الملكية الخاصة، والمنافسة بين الشركات، حيث تُحدد الأسعار بناءً على تفاعل السوق، ويكون الابتكار هو المحرك الرئيسي للنمو الاقتصادي.
ورغم إيجابيات هذا النموذج، مثل تعزيز الكفاءة الاقتصادية، وتشجيع الابتكار، وجذب الاستثمارات، إلا أنه قد يؤدي إلى تفاوت في الدخل واحتكارات تجارية بحال لم يتم تنظيمه بشكل دقيق.
لماذا تتجه الحكومة نحو اقتصاد السوق الحر؟
وفقاً للمعلن، فإن تبنّي اقتصاد السوق الحر جاء نتيجة عدة اعتبارات مترابطة تتعلق بالواقع الاقتصادي الراهن والحاجة الملحّة إلى التغيير. فقد سعت الحكومة إلى التخلص من الإرث الاقتصادي الذي اتسم طويلاً بسيطرة الدولة وتدخلها المباشر في الأسواق، وهو ما أضعف التنافسية ورسّخ البيروقراطية في مفاصل الاقتصاد من وجهة نظرها، مما جعل من الضروري التحول نحو نموذج أكثر مرونة وكفاءة.
كما جاء هذا التوجه في إطار محاولة للاندماج في الاقتصاد العالمي والانفتاح على الأسواق الدولية، إذ يُتوقع أن يساهم في جذب الاستثمارات الأجنبية وتعزيز التبادل التجاري عبر توسيع عمليات الاستيراد والتصدير.
ويُضاف إلى ذلك أن الاقتصاد السوري، الذي أنهكته الحرب والعقوبات، بات في أمسّ الحاجة إلى نموذج اقتصادي قادر على إعادة التوازن والاستقرار وتحفيز الإنتاج المحلي، فيما يُعوَّل على هذا النموذج في كبح جماح التضخم، من خلال تحرير الأسعار وتشجيع المنافسة، بما يؤدي إلى تحسين جودة السلع والخدمات المقدّمة للمواطنين.
التحديات أمام التطبيق
رغم الفوائد المحتملة، تواجه الحكومة الحالية عدة تحديات في تنفيذ هذا التحول، منها الإرث الاقتصادي القديم، فلعقود، اعتمدت سوريا على نظام اقتصادي مركزي، مما أدى إلى ضعف الوعي بآليات السوق الحر.
كذلك، فإن غياب القوانين المنظمة يعد تحدّي كبير في هذا الإطار، إذ تفتقر سوريا إلى تشريعات واضحة تحمي السوق من الاحتكار والفساد. واستمرار الفساد الذي كان موجوداً أيام السلطة السابقة وعدم الشفافية قد يعيق نجاح الاقتصاد الحر، ويؤدي إلى مزيد من احتكار الثروة من قبل فئات معينة.
إلى جانب ذلك، هنالك مسألة ضعف البنية التحتية الاقتصادية، حيث يحتاج تطبيق هذا النموذج إلى تحسين البنية التحتية، وتطوير المؤسسات المالية، وتعزيز البيئة الاستثمارية.
الرسائل السياسية والاقتصادية لهذا التوجه
يحمل هذا التحول الاقتصادي رسائل مهمة للداخل والخارج، فمن ناحية، تسعى الحكومة الجديدة إلى طمأنة الدول الغربية بأنها مستعدة للانفتاح الاقتصادي والاستثمار الأجنبي. أمّا الرسالة للداخل السوري، فهي أن هذا التوجه يعني أن عهد المركزية الاقتصادية قد انتهى، وأن هناك فرصاً جديدة للنمو الاقتصادي في محاولة لزرع الثقة وتجديد الأمل.
كذلك، يمثل التحول نحو اقتصاد السوق الحر إشارة إيجابية للمستثمرين، لما يتضمنه من جذب للاستثمارات الدولية والعربية، وقوانين تسهل الاستثمار وتعطي ميزات للمستثمرين.
اقرأ أيضاً: لا تحتاج سوى 5 دقائق.. سوريا تعرض «صفقة تاريخية» على ترامب!
آراء متباينة
مع إعلان الحكومة السورية الجديدة عن تبني اقتصاد السوق الحر، انقسمت الآراء بين مؤيدين يرون فيه فرصة لإنعاش الاقتصاد، ومعارضين يحذرون من تداعياته على الفئات الضعيفة. فيرى الخبير الاقتصادي فراس شعبو أن اعتماد اقتصاد السوق الحر سيجعل البلاد سوقاً خصبة للاستثمارات الداخلية والخارجية، ويحقق كفاءة اقتصادية تدفع الشركات إلى رفع جودة الخدمات والسلع بأسعار تنافسية.
بالمقال تحذر الباحثة الاقتصادية رشا سيروب من أن استمرار استيراد البضائع الأجنبية، خاصة من تركيا، قد يؤدي إلى انهيار القطاع الصناعي المحلي، العام والخاص. كما يشير الباحث الاقتصادي محمد السلوم إلى أن تطبيق اقتصاد السوق دون بنية تشريعية واستقرار مالي قد يؤدي إلى إعادة توزيع لمراكز النفوذ الاقتصادية دون تحقيق تحرر اقتصادي فعلي.
ختاماً، يبدو أن تبني اقتصاد السوق سيف ذو حدّين، إذ أن نجاحه مرهون بتجاوز التحديات، غير أنه يتطلب إصلاحات اقتصادية وتشريعية لضمان تنظيم السوق ومنع الاحتكارات. وإجراءات رقابية لضمان العدالة في توزيع الثروات وحماية الفئات الضعيفة.