بتاريخ عريق يمتد لأكثر من ألف عام، وعمارة فريدة ممزوجة بتأثيرات عصور متعاقبة، تشمخ قلعة صلاح الدين الأيوبي على قمة تلة صخرية وسط جبال الساحل السوري، لتلامس الغيوم، وتطلّ على البحر، مانحةً كل من يصعد إليها إطلالةً بانورامية تخلّد في الذاكرة… وفي هذا المقال سنغوص في تاريخ هذه القلعة الحصينة وهندستها المذهلة التي استحقت بسببها أن تصنّف كإحدى أروع القلاع في الشرق.
تتربع قلعة صلاح الدين الأيوبي على قمة تلة صخرية بارتفاع 410 أمتار عن سطح البحر، وتشرف على مدينة اللاذقية الساحلية لتكون شاهداً خالداً على التاريخ العريق للمنطقة.
وكواحدة من أكبر الحصون في سوريا، تمتد القلعة على مساحة تزيد عن 5 هكتارات، ويبلغ طولها نحو 740 متراً، وقد عرفت عصوراً متلاحقة من السيطرة؛ من البيزنطيين إلى الفرنجة، فالأيوبيين والمماليك، ما جعلها تحمل بين حجارتها سجلاً حافلاً لتاريخ مضطرب تتجلى آثاره في جدرانها ومرافقها.
وقد أبهرت القلعة الباحثين والمؤرخين، واعتبروها مثالاً لفن العمارة العسكرية في سوريا، حتى قيل إن أطلالها تعدّ من أعظم ما خلّفته سوريا القرون الوسطى من روائع معمارية تثير الدهشة.
ووصفها ابن شداد، الذي رافق السلطان صلاح الدين الأيوبي أثناء تحريرها، فقال:
“وهي قلعة حصينة منيعة في طرف جبل، خنادقها أودية هائلة واسعة عظيمة، وليس لها خندق محفور إلا من جانب واحد مقدار طوله -60- ذراعاً أو أكثر، وهو نقر في الحجر، ولها ثلاثة أسوار: سورين دون القلعة، وسور القلعة”.
اقرأ أيضاً: أشهر القلاع في سوريا: جدرانٌ تنطق بأسرار التاريخ
قلعة صلاح الدين تتنفس تاريخاً!
تُعرف قلعة صلاح الدين الأيوبي أيضاً باسم “صهيون”، إذ كانت مدينة الحفّة القريبة منها تُعرف آنذاك بمدينة صهيون، كما أشار ياقوت الحموي في معجم البلدان… وتعني هذه الكلمة بالسريانية “الصخرة العالية” أو “البرج العالي”، وباليونانية تعني “تسيغون”، أي “الحصن”.
وفي الأصل، شُيّدت القلعة خلال القرن العاشر الميلادي على يد الحمدانيين، في عهد الأمير سيف الدولة، لتكون حصناً دفاعياً متيناً، وفي عام 975م، استولى عليها الإمبراطور البيزنطي يوحنا تزمسكس -المعروف لدى العرب بابن شمشقليق- الذي قام بتحصينها وأضاف لها أسواراً وأبراجاً ضخمة، وكنيسة.
في أوائل القرن الثاني عشر، سيطر الصليبيون عليها وقاموا بتحويلها إلى معقل عسكري متطور، إذ حفروا خندقاً عميقاً في الصخر لفصلها عن الهضبة المجاورة، وبنوا أبراجاً دفاعية ومستودعات وخزانات مياه، ما جعلها من أقوى الحصون في المنطقة.
ولتحريرها من الصليبيين، قاد السلطان صلاح الدين الأيوبي -أحد أبرز القادة في التاريخ الإسلامي- حملة عسكرية عام 1188م، وبعد حصار دام ثلاثة أيام، نجح في اقتحامها، لتصبح قلعة صلاح الدين رمزاً للمقاومة والانتصار الإسلامي.
وفي فترات لاحقة بعد الأيوبيين، انتقلت القلعة إلى حكم المماليك، الذين حافظوا على أهميتها الاستراتيجية، وفي عهد العثمانيين تراجع دور القلعة تدريجياً حتى أصبحت مهجورة لفترة طويلة… أما اليوم، فتعدّ قلعة صلاح الدين من أبرز المعالم التاريخية والسياحية في سوريا، وتستقطب الزوار والسياح من داخل سوريا وخارجها.
اقرأ أيضاً: قصر العظم: كنز معماري وجنّة عشّاق الفخامة والأصالة
هندسة معمارية خالدة
بُنيت قلعة صلاح الدين على نتوء صخري مرتفع يشبه مثلثاً متساوي الساقين، ترتكز قاعدته إلى الشرق، حيث تتركز التحصينات والمرافق الدينية، بينما يمتد رأسه نحو الغرب، وهو جزء منخفض قليلاً كان مخصصاً للسكن ويحمل بين جنباته بقايا بيزنطية مهمة كالأبراج الدفاعية المربعة والمستطيلة، والأسوار الضخمة، والبوابات، إضافة إلى خزانات المياه، الإصطبلات، الكنيسة، المستودعات، المعاصر، والسجن، ولا يزال السور المحيط بهذا الجزء قائماً حتى اليوم.
وتعكس هندسة القلعة المعمارية مزيجاً ساحراً من التأثيرات البيزنطية والصليبية والإسلامية، يظهر في تنوع العناصر الدفاعية والمعمارية، التي تجعل كل من يزورها مندهشاً من دقة البناء وبراعة التفاصيل.
ومن جهتها الجنوبية، تقع بوابة الدخول الرئيسية وتعلوها ثلاثة أبراج ضخمة، يبلغ سمك جدرانها نحو 5 أمتار، وارتفاعها 24 متراً، ويقع أول هذه الأبراج على يمين المدخل، وهو حصن شيّده الصليبيون لاستخدامه في المراقبة والحراسة، ويجاوره برج ثانٍ لأداء الغرض نفسه.
أما البرج الثالث، فهو مكوّن من طابقين يحتويان غرفتين، تتخللهما فتحات لرمي السهام، ويقود أحد الأدراج داخله إلى سجن انفرادي. وبمحاذاته، يوجد خزان ماء وإسطبل واسع بيزنطي الأصل، أعاد الصليبيون ترميمه وتحويله إلى مستودع للأسلحة.
وفي الجهة الشرقية، كان الصليبيون قد عمّروا برجاً مهيباً من طابقين تعلوهما شرفة، يبلغ ارتفاع الطابق الأول 11 متراً، وفيه فتحات للرماة، بينما كان الطابق الثاني مقراً للملك، وتفتح فيه ثلاث نوافذ كانت تستخدم للمراقبة، وينتصب في وسط البرج عمود ضخم يحوي بداخله ممراً سرياً يبدأ ضيّقاً في الأعلى، وينحدر عبر درج لولبي يقود إلى غرف تتسع لخمسة أشخاص، ثم يمتد الممر إلى نفق يبلغ طوله 85 متراً ينتهي بباب يؤدي إلى الوادي.
ولا تزال محطة ضخمة تطلّ على الخندق الشرقي، تحيط بها صهاريج مياه وإسطبلات، ويمكن بسهولة تمييز قلعة بيزنطية بتصميم فريد في وسط البناء، إلى جانب صهريج كبير، وبيت شاي صليبي، وكنيسة صليبية مجاورة لمصلّيين بيزنطيين.
وفي قلب القلعة، سترى المسجد الذي يمتاز بجماله المعماري الهادئ، القصر بقاعاته الفسيحة الفخمة، الحمام الذي يكشف لك عن تفاصيل الحياة اليومية التي كانت تُعاش آنذاك، والسجن، الذي يكشف على الوجه القاسي من تاريخ هذا الحصن العظيم.
أما آثار العهد العربي الإسلامي، فتتمثل بعدد من المنشآت الرائعة، مثل الجامع الذي شيّده السلطان قلاوون، إضافة إلى مئذنة وحمامين وبرج يشرف على القسم المنخفض من القلعة… وقد خُلّدت بعض هذه المعالم بنقوش عربية، من أبرزها تلك المحفورة على جدران الحمام الشمالي، والتي تقول:
“بسم الله الرحمن الرحيم عزّ مولانا السلطان الملك العادل… المرابط المثاغر المؤيد المظفر المنصور… سلطان الإسلام والمسلمين، قامع الكفرة والمشركين، محيي العدل في العالمين، كتبها المنصور أعز الله أنصاره، وأدام اقتداره”.
اقرأ أيضاً: «قلعة حلب» رمز العنفوان رغم كُروب الزمان
ترميم القلعة
خضعت قلعة صلاح الدين لسلسلة من أعمال الترميم والصيانة التي هدفت إلى الحفاظ على أصالتها دون المساس بجوهرها التاريخي، ففي عام 1936، شهدت أولى محاولات الترميم الحديثة، وحينها أُعيد بناء بوابة القصر الأيوبي بأسلوب يحاكي تصميمها الأصلي، إلا أن هذا النوع من الترميم الذي يعتمد على إعادة البناء تم التخلي عنه لاحقاً وبدأ التركيز يتجه نحو التدعيم الوقائي والصيانة الدورية.
وفي عام 1999، وقّعت مؤسسة الآغا خان للثقافة (AKTC) مذكرة تفاهم مع المديرية العامة للآثار والمتاحف في سوريا (DGAM) لتقديم الدعم الفني لترميم ثلاث من أبرز القلاع التاريخية في سوريا، من بينها قلعة صلاح الدين.
كما كان هناك أعمال ترميم للقلعة بين عامي 2006 و2008، وقد اعتمدت على منهجية دقيقة تراعي المواد الأصلية المستخدمة في البناء، وبما يحفظ الطابع المعماري الفريد للقلعة، وقد شمل المشروع في ذلك الوقت ترميم السور البيزنطي الشرقي وأبراجه، بهدف معالجة التشققات وتعزيز المتانة، وترميم أقواس الأسوار الصليبية والمئذنة ضمن المجمع الأيوبي، وفي عام 2022، نفذت دائرة الآثار والمتاحف في محافظة اللاذقية أعمال ترميم جزئية لعدة أقسام من القلعة.
جدير بالذكر أن قلعة صلاح الدين مدرجة على قائمة التراث العالمي منذ عام 2006، بحسب تصنيف منظمة الأمم المتحدة للتربية والعلم والثقافة (اليونسكو).
وعلى عكس قلاع حلب والحصن والمرقب، التي لحقت بها أضرار جسيمة خلال سنوات الحرب الطاحنة، حافظت قلعة صلاح الدين على سلامتها بشكل نسبي، واستمرت في استقبال الزوار والسياح ولو بأعداد قليلة وقد توقفت الزيارات في فترة معينة، بعد الزلزال العنيف الذي ضرب سوريا في شباط 2023 وتسبب بأضرار بالغة في بنيانها.
وقد أوضح المشرف عليها أن “كل حجر في القلعة يزن طناً على الأقل، وإذا ما انهار أي جزء منها نحو الوادي، فلن يكون بالإمكان إعادته إلى مكانه”، كما حذر من أن “القلعة حتماً ستعاني من انهيارات قادمة، قد تتسبب بها هزّة أرضية بسيطة، أو حتى أمطار غزيرة تتسلل إلى الشقوق وتعمّقها”.
ورغم الأضرار التي لحقت بها، والتحديات التي واجهتها على مرّ الزمن، لا تزال قلعة صلاح الدين صامدة، تروي جدرانها حكاية تاريخ طويل… لكنها بحاجة إلى رعاية وجهود حقيقية لحمايتها من خطر الانهيار. نأمل أن تحظى هذه القلعة، وغيرها من القلاع والآثار التاريخية في سوريا، بالاهتمام اللازم في المستقبل القريب للحفاظ عليها للأجيال القادمة.
اقرأ أيضاً: مكتب عنبر: ذاكرة دمشق الحيّة بين الحجر والحبر
