لا يخفى على أحد المشهد الصحي المؤسف في سوريا، والذي يمر بأصعب مراحله نتيجة أكثر من عقد على الحرب والصراعات التي تركت بنيته التحتية متهالكة، ودفعت بكوادره الطبية إلى الهروب، وجعلته يقبع تحت خط الفقر، هذه التحديات القاسية تتطلب حلولاً عملية ولو كانت مؤقتة لتخفّف من معاناة الناس وتسدّ النقص الهائل في الخدمات الصحية الضرورية… لذا قد يكون من المفيد أن نلقي نظرة خارج حدودنا، نتأمل تجارب شعوب مرّت بأزمات مشابهة لما نمرّ به، لا لننسخ النماذج التي حلّوا بها مشاكلهم، بل لنستقي درساً وعبرة من تجارب خاضت صراعات فتعثرت فنهضت، ونطوّعها ضمن سياقنا الخاص، مع إدراكنا الكامل أن أي حلّ من هذه الحلول يبقى جزئياً ولا يغنينا عن الحاجة إلى برنامج شامل لإصلاح القطاع الصحي في سوريا من جذوره.
ولعلّ تجربة الأطباء الحفاة التي انتشرت في ستينيات القرن الماضي في الصين، وحققت نجاحات مهمة ولا يمكن وصفها بالخارقة، يمكنها أن تكون –من وجهة نظرنا- نموذجاً ملهماً لدفع القطاع الصحي السوري نحو التعافي البسيط ريثما يتم إصلاحه بخطة مدروسة وشاملة.
فما هي تجربة الأطباء الحفاة في الصين؟
عشية الثورة الشيوعية عام 1949، كان في الصين حوالي 40 ألف طبيب فقط لـ540 مليون نسمة، أي طبيب واحد لكل 13,500 مواطن، في بلد يعاني من أوبئة متفشية ونقص في المرافق الصحية خصوصاً في الأرياف، حيث كان معظم الأطباء يتمركزون في المدن الكبرى، ما جعل الريف الصيني محروماً من الرعاية الطبية الأساسية، ومرتعاً لأمراض معدية مثل البلهارسيا التي عانى منها قرابة عشرة ملايين فلاح.
حينها، أدرك ماو تسي تونغ أشهر زعماء الشيوعية في العالم، ورئيس جمهورية الصين الشعبية في عام 1954، ومؤسس الثورة الثقافية الصينية، أن أي “قفزة عظيمة إلى الأمام” في الزراعة أو الاقتصاد لا يمكن أن تتحقق دون تحسين صحة الفلاحين، لذا فقد دعا إلى إعادة هيكلة النظام الصحي، خاصة في المناطق الريفية، وكانت إحدى المبادرات التي تم إطلاقها برنامج الأطباء الحفاة.
انطلقت هذه المبادرة في الستينيات من القرن العشرين، حين تم إرسال فرق طبية متنقلة من المدن إلى الريف، وأُطلقت حملات واسعة للتلقيح ومكافحة الأمراض المعدية، كما شُرع بتدريب آلاف الفلاحين الشباب -أغلبهم في العشرينيات من العمر أو أقل- على أساسيات الطب خلال دورات مكثفة بين 3 إلى 6 أشهر، تعلّموا فيها علوم التشريح، والأمراض الشائعة، والوخز بالإبر، وتنظيم الأسرة والصحة الوقائية.
لم يكن هؤلاء الأطباء الحفاة أطباء أكاديميين، بل فلاحين ظلّوا يعملون في حقولهم، ويقدّمون في ذات الوقت الإسعافات الأولية، والتوعية الصحية، والتطعيمات، وتثقيف السكان بمبادئ النظافة، عاشوا بين الناس، وعملوا في الحقول مثلهم، ما جعلهم جزءاً من النسيج الاجتماعي، لا مجرد أطباء.
اقرأ أيضاً: التعليم في سوريا: واقع هشّ ومستقبل غامض وجهود في مهبّ الريح!
إنجازات رغم الإمكانات المحدودة
وعلى الرغم من أن البرنامج كان بسيطاً في معدّاته وقدراته، إلّا أنه حقق بعض الإنجازات في إيصال الحد الأدنى من الرعاية لمجتمعات كانت محرومة تماماً
وخلال عقد واحد، وصل عدد “الأطباء الحفاة” إلى مليون طبيب، ونجحت الصين في تقليص نسب الإصابة بالبلهارسيا بنسبة 90% في بعض المناطق بحسب تقارير، وانخفض عدد الإصابات الكلي من 10 ملايين إلى 2.4 مليون بحلول الثمانينيات.
ولفتت التجربة انتباه خبراء في الصحة العامة من دول متقدمة مثل الولايات المتحدة وبريطانيا، الذين دعوا إلى الاستفادة من هذا النموذج في مواجهة نقص الكوادر الصحية في مجتمعاتهم المهمشة.
لكن لم يكن ذلك كافياً، فمع بداية الانفتاح الاقتصادي في الثمانينات، بدأ النموذج ينهار، إذ لم يعد كافياً لتلبية احتياجات سكان الريف الذين بدأوا يطالبون بخدمات أفضل، كما قلّصت الحكومة الدعم المالي عنهم، وبدأت السوق تفرض منطقها في الرعاية الصحية، ولهذا السبب، أُلغي لقب الأطباء الحفاة عام 1985، وتحوّل إلى لقب آخر هو أطباء القرى بشرط اجتياز امتحان مهني رسمي، وأُعيدت هيكلة النظام الصحي تدريجياً ليشبه النماذج الغربية.
ومع ذلك، لا زال النموذج يذكر بخطوة إيجابية تمكنت نوعاً ما من سد الفجوة بين الريف والمدينة، وكانت حجر الأساس الذي سمح لاحقاً ببناء نظام صحي متوازن.
وعلى الرغم من أن نموذج الأطباء الحفاة في الصين كان قد اعتمد على طرق بدائية وأطباء غير مدربين بشكل كافٍ، فقد اعترفت به منظمة الصحة العالمية للدور المهم الذي لعبه في تطوير الرعاية الصحية الأولية في المناطق الريفية في الصين.
اقرأ أيضاً: عواصف غبارية في سوريا والمنطقة.. ما هي وما تأثيرها على الصحة؟
ما علاقة هذا الكلام بسوريا؟
عندما نتأمل القطاع الصحي في سوريا اليوم، نجد مشهداً كارثياً ربما بقدر أكبر مما كانت الصين عليه في ذلك الوقت، فحينها، كانت القرى الصينية تفتقر إلى المستشفيات والأطباء والتجهيزات الطبية، أما سوريا، فقد خسرت ما كانت تملكه بسبب سنوات الحرب؛ المستشفيات دُمِّرت، والأطباء قُتلوا أو هاجروا، ما خلّف فراغاً صحياً كبيراً في الكثير من المناطق، وسط انعدام في التمويل، إلّا من بعض المنظمات الإنسانية والجهود الشخصية أو المجتمعية
ما الذي يمكن تعلّمه من الصين؟
ليس منطقياً في القرن الواحد والعشرين أن نستنسخ تجربة الأطباء الحفاة بحرفيتها، فظروف الصين في الستينيات ليست هي سوريا اليوم… ومع ذلك، يمكن الاستفادة من بعض جوانبها وأخذ أفكار قابلة للتطبيق قد تساعد في التخفيف من الأزمة، حتى وإن لم تحلّها بشكل كامل.
فمع غياب الرعاية الصحية عن العديد من القرى السورية والمخيمات الموجودة حتى اليوم، قد يكون مفيداً التفكير في برامج مؤقتة تعتمد على العامل الصحي المجتمعي، من خلال تدريب شباب من أبناء الريف السوري على تقديم خدمات صحية أولية بعد تأهيل سريع ومناسب وإشراف طبي مباشر، ويمكن إدماج هذه الخطوة ضمن خطة أوسع لإعادة بناء النظام الصحي.
لكن هذه الخطوة وحدها ليست كافية، وليست حلاً نهائياً بالطبع، بل يمكننا اعتبارها مرحلة انتقالية تتضمن خطوات واقعية ضمن مسار طويل لإعادة بناء قطاع وهي أفضل من الاستسلام للواقع الصعب وانتظار الحلول الكاملة فحسب.
اقرأ أيضاً: من Adolescence إلى سوريا: كيف تسمّم الهواتف الذكية عقول أطفالنا؟
إذاً.. ما هو الحلّ الشامل لإنعاش القطاع الصحي في سوريا؟
لا يمكن لأي خطة لإحياء القطاع الصحي في سوريا أن تنجح دون دور أساسي من وزارة الصحة، ودون إزالة العقبات التي تعيق التعاون بين الجهات المختلفة، وعلى رأس القائمة العقوبات الدولية التي تعرقل جهود إعادة الإعمار.
وحتى الآن، ما زال التنسيق بين المنظمات المحلية والدولية ضعيفاً ومحدوداً، يركز فقط على معالجة الأزمات الطارئة، دون أن يضع خطة طويلة الأمد لإصلاح النظام الصحي. وصحيح أن تلبية الاحتياجات العاجلة أمر مهم، لكنه لا يكفي وحده، فإن لم يتم العمل على بناء نظام صحي قوي ومستقر، فسيظل الوضع متدهوراً حتى لو توقفت الحرب.
ولهذا السبب، نحتاج إلى خطة شاملة لإعادة بناء القطاع الصحي من جديد، ويجب أن تشمل هذه الخطة عناصر أساسية مثل ترميم البنية التحتية المتهالكة، تدريب وتأهيل العاملين، تأمين التمويل اللازم توفير الأدوية واللقاحات، تطوير المعدات والتقنيات، وضمان وجود إدارة فعّالة ونظام معلومات صحي موثوق.
لكن الأهم من كل هذه العناصر، أن تتم هذه الخطة بالتعاون بين الجميع، وزارة الصحة، منظمات الأطباء في الخارج، الهيئات الإنسانية، الجهات المحلية والدولية، ووكالات الأمم المتحدة، يجب أن يعملوا معاً، فلا يمكن ليَد واحدة أن تصفِّق، والتجربة أثبتت أن العمل المنفصل يؤدي إلى الفوضى، وليس إلى حلّ.
وإذا استمر هذا التشتت، وبقيت الحلول فردية، فسوف تزداد الأوضاع سوءاً. سيستمر الأطباء في الهجرة، وتضيع الكفاءات، ويبقى المواطن السوري ينتظر العلاج بلا أمل.
ختاماً، لن يكون تطبيق بعض أفكار نموذج الأطباء الحفاة في الصين، حلاً سحرياً لكل مشكلات القطاع الصحي في سوريا، لكنه قد يشكل خطوة عملية نحو التخفيف من المعاناة، وربح الوقت حتى ترميم النظام الصحي المتهالك.
هي مجرد فكرة طموحة… كما فعلت الصين ذات يوم، علينا نحن أيضاً أن نبدأ بما هو متاح بين أيدينا -وهو ليس قليلاً- فالشعب السوري أثبت مراراً قدرته على النهوض من الرماد، والسير بخطى ثابتة نحو أهدافه، سواء في بناء نظام صحي عادل، أو في سعيه نحو مستقبل أفضل يليق بتضحياته وصبره.
اقرأ أيضاً: سوريا بعد الحرب.. القطاع الصحي مشلول والشعب يدفع الثمن!
Good https://is.gd/N1ikS2
Good https://is.gd/N1ikS2
Awesome https://is.gd/N1ikS2
Good https://is.gd/N1ikS2
Good https://is.gd/N1ikS2
Good https://is.gd/N1ikS2
Good https://is.gd/N1ikS2