بقلم: لمى ابراهيم
الفستق الحلبي… عناقيد حمراء كستنائية تحتضنها مزارع سوريا الخضراء، كأنها قلائد من حبات ياقوت تزيّن بها الأرض، ترسم لوحة ربانية ممزوجة بين الخصوبة والصبر، تسعد كل من يناظرها، وتتكلم، لتروي حكاية تتجاوز حدود الزراعة وتغدو جزءاً من هوية وطنية وثقافية، تتوارثها الأجيال وتعتز بها القلوب.
في موسم 2024–2025، احتلت سوريا المركز السادس بين أكبر عشر دول من منتجي الفستق في العالم، وفقاً لتقارير هيئة الخدمات الزراعية الخارجية الأميركية، وهذا ليس غريباً عليها، فهذه الأرض الخيّرة هي من المواطن الأصلية لشجرة الفستق… من هذا المنطلق وفي هذا المقال، نصحبكم في رحلة إلى عالم الفستق الحلبي، تاريخه العريق، حاضره المثمر، والتحديات التي تقف في وجه استمراريته.
جذور الفستق الحلبي
انطلقت قصة شجرة الفستق الحلبي من دول حوض المتوسط، وتحديداً من سوريا، وبالتحديد أكثر من محافظات حلب، وإدلب، وحماة، على عكس الروايات التي تنسب موطنه الأصلي إلى إيران أو أوزبكستان، فالأدلة الأثرية تؤكد أن سوريا هي الأرض الأم لهذه الشجرة المباركة، إذ يعود أقدم توثيق لاستهلاك الفستق إلى العصر البرونزي في مدينة حلب. كما عُرفت الشجرة في زمن مملكة ماري وغيرها من الحضارات السورية القديمة، وحملها الرومان إلى أوروبا في القرن الأول الميلادي، بعد أن تعرفوا عليها في حلب.
ومن اسمه نتأكد أنه منسوب إلى مدينة حلب، أحد أقدم المراكز التجارية في التاريخ، والتي لعبت دوراً محورياً في تجارة المنتجات الزراعية، وفي مقدمتها الفستق… وحتى اليوم، لا تزال حلب تحتفظ بمكانتها في إنتاج وتصدير الفستق الحلبي ذو النكهة المميزة والجودة العالية. يسمى الفستق الحلبي أيضاً “الذهب الأحمر” و”رزق الملوك”، بسبب ارتفاع قيمته وكونه من صادرات البلاد المهمة.
ومنذ قديم الزمان، شكّلت شجرة الفستق الحلبي جزءاً أساسياً من الحياة اليومية في سوريا، إذ تعلّم الفلاحون السوريون فنون زراعتها بالتوارث من الأجداد، مستفيدين من الظروف المناخية المواتية والتربة الخصبة، خاصة في المناطق الشمالية والوسطى التي وفرت بيئة مثالية لنموها.
لم يزرع الفلاحون الأشجار فقط، بل استغلوا ثمارها على أكمل وجه، من استخدامها في المطبخ التقليدي والحلويات، إلى عصرها واستخدام زيتها في المجالات الصحية والغذائية على حد سواء، فباتت هذه المعرفة القديمة والممارسة الدقيقة تمنح الفستق الحلبي جودة لا يُعلى عليها وطعماً فريداً، ليصبح من أجود أنواع الفستق في العالم.
اقرأ أيضاً: موسم الحمضيات في سوريا.. بين تباين الأرقام وانتعاش الأسواق الخارجية!
أشهر أصناف الفستق الحلبي
هناك أصناف عديدة للفستق الحلبي تختلف في الشكل والطعم والاستخدام، ولكل نوع منها خصوصيته التي تميّزه، وعلى رأس القائمة يأتي الفستق العاشوري، بحبته الكبيرة ومذاقه الزكي، أما الباتوري، فهو متوسط الحجم بلون أخضر مائل إلى الأحمر، نكهته غنية تجعله مكوناً أساسياً في الحلويات الشرقية، خصوصاً البقلاوة.
ويتميز صنف العليمي بحبته الصغيرة وطعمه المميز، وغالباً ما يتم استخدامه في تزيين الأطباق والمقبلات، بينما يُعرف البندقي بحبته الدائرية الصغيرة ولونه الأخضر الداكن… ولصنف الجلب الأحمر لوناً مميزاً ونكهة قوية ما يجعله شائعاً في صناعة الحلويات الفاخرة، أما ناب الجمل، بحبته الكبيرة ولونه الأخضر الفاتح، يستخدم في المعجنات أو يُحمّص ويؤكل كوجبة خفيفة وشهية.
خريطة الذهب الأحمر في سوريا
تتوزع زراعة أشجار الفستق الحلبي على رقعة واسعة من الأراضي السورية، ففي حلب، وتحديداً قرى مثل منبج، وأعزاز، وصوران، والباب، وجرابلس، تمتد البساتين على مدّ النظر، وقد ازدهرت زراعة الفستق في هذه المناطق خلال السنوات الأخيرة، لتحلّ تدريجياً محلّ محاصيل تقليدية كالقمح والشعير، رغم ارتفاع تكاليف زراعتها وطول فترة نموّ الشجرة التي قد تتجاوز ثمانية أعوام قبل أن تثمر.
أما في محافظة حماة، وبالذات قرية مورك، فقد أصبحت اسماً مرادفاً للجودة والإنتاج الوفير، ومعها كفر زيتا والطيبة، وتحتضن هذه المناطق مساحات شاسعة من بساتين الفستق، وتلعب دوراً مهماً في دعم الاقتصاد المحلي.
في إدلب أيضاً، وخصوصاً في القرى الجنوبية، تجد أشجار الفستق ملاذاً لها في التربة الخصبة والمناخ المعتدل، لتنتج ثمراً عالي الجودة يباع في السوق المحلية أو العالمية.
هذه هي المناطق الرئيسية التي تنتشر فيها الكمية الأكبر من أشجار الفستق، ولتحديد امتدادها وتوزعها يمكننا القول أن الأشجار تنتشر على امتداد ست محافظات رئيسية، في الصدارة محافظة حلب بمساحة مزروعة تبلغ 23,500 هكتار، تليها حماة بـ21,300 هكتار، ثم ريف دمشق 3,031 هكتار، حمص 981 هكتار، والسويداء 676 هكتار، بينما تتوزع بقية المساحات على الحسكة، الرقة، الغاب، ودير الزور.
اقرأ أيضاً: زراعة النخيل في سوريا: هل تستعيد رونقها وتنهض من جديد؟
الحرب تخفت بريق الذهب الأحمر
كانت سوريا من كبار منتجي الفستق عالمياً، إذ وصل إنتاجها السنوي إلى حوالي 80 ألف طن قبل الحرب، محتلة المرتبة الثانية آسيوياً بعد إيران، والرابعة عالمياً بحسب بيانات منظمة الأغذية والزراعة (FAO)، أما في عام 2011، قدّر الإنتاج السوري بـ56,833 طناً، بلغت قيمته السوقية حينها حوالي 292 مليون دولار.
ومع اندلاع الحرب والصراعات تراجع الإنتاج بشكل حاد، لينخفض إلى ما يقارب النصف، ففي عام 2013، ورغم الظروف السيئة، احتفظت سوريا بموقعها كـرابع أكبر منتج عالمي بإنتاج 54 ألفاً و516 طناً، إلا أن التحديات الأمنية أثّرت بشكل كبير على القطاع، وانخفضت تقديرات الإنتاج الفستق في عام 2014 إلى ما بين 35 الى 45 ألف طن.
وبحسب الإحصاءات الصادرة عن النظام السوري السابق لعام 2020، بلغت المساحة المزروعة بالفستق نحو 58,953 هكتاراً، بإنتاج قدر بأكثر من 65 ألف طن، في مؤشر على تعافٍ جزئي للقطاع الزراعي.
ووفقاً لبيانات عام 2022 بلغ عدد أشجار الفستق الحلبي في سوريا 9.7 ملايين شجرة، منها 7.7 ملايين في مرحلة الإثمار الفعلي، بينها 3.25 ملايين في حماة التي احتلت المركز الأول إنتاجياً بإجمالي 31 ألف طن، تلتها إدلب بـ16 ألف طن، ثم حلب بأكثر من 15 ألف طن. وبلغ إنتاج حمص والسويداء مجتمعَين حوالي 1,495 طناً
وفي عام 2023، بلغ عدد أشجار الفستق المزروعة في ريف حلب وحده حوالي 19,149 شجرة، بينما وصلت تقديرات الإنتاج الوطني إلى 18,700 طن، ورغم القيود والعقوبات، نجحت سوريا في تصدير نحو 627 طناً من الفستق الأخضر، و462 طناً من اللب (القلب)، إضافة إلى 35 طناً بغلافه الخشبي، إلى أسواق مثل دول الخليج، الأردن، ومصر.
وشهد موسم العام الماضي انتعاشاً نسبياً، إذ بلغ الإنتاج الإجمالي على مستوى القطر حوالي 77 ألف طن، منها 33 ألف طن في المناطق الآمنة، و44 ألف طن في المناطق غير الآمنة، ولكن مع الارتفاع في الإنتاج جاءت قفزة ملحوظة في الأسعار، إذ وصل سعر الكيلوغرام الواحد من الفستق الحلبي بعناقيده إلى 10 دولارات، مقارنة بـ6 دولارات فقط في العام الذي سبقه.
اقرأ أيضاً: القطن السوري يحتضر.. والمزارعون ينتظرون الفرج!
تحديات وحلول
تواجه شجرة الفستق الحلبي تحديات جمة، أهمها تغيرات المناخ مثل موجات الصقيع والتجمد التي تضر بالأشجار، والجفاف وقلة الأمطار التي تؤثر على الإنتاج كماً ونوعاً.
وأيضاً هناك مشكلات الري وضعف البنية التحتية، وارتفاع أسعار الأسمدة والمبيدات والمحروقات وأجور النقل، كما تمثل الآفات الزراعية، خاصة حشرة “الكومبودوس” التي تهاجم الأشجار تحدياً خطيراً يستلزم مكافحتها… هذه العقبات مجتمعة تهدد استدامة هذا المورد المهم الذي ينعش سوريا ويغذي اقتصادها.
ولمواجهة هذه التحديات المتزايدة بات ضرورياً اعتماد إستراتيجيات زراعية ذكية ومستدامة، مثل تطوير أصناف جديدة أكثر مقاومة للجفاف والحرارة، ما يساعد في التكيف مع التغيرات المناخية، كما أفادت دراسات بأن إدخال نظم ري حديثة كالتنقيط والري الذكي، يساهم في تقليل الهدر وتحسين الإنتاجية، خاصة في ظل قلة المياه.
يمكن أيضاً أن تلعب البحوث الزراعية دوراً محورياً في ابتكار حلول عملية وتقديم توصيات مبنية على بيانات دقيقة، أما مجتمعياً، فإن تعزيز التعاون بين المزارعين والمؤسسات، وتفعيل دور الإرشاد الزراعي والتدريب على أساليب الزراعة المستدامة، يشكلان خطوة مهمة نحو رفع كفاءة الإنتاج وضمان استمرارية هذه الزراعة المهمة.
وهكذا… رغم الجفاف وشح المياه، رغم الآفات وكل التحديات، ما زال الفستق الحلبي ينبت، ويثمر… فإن كان للحرب أن تسرق سنيناً من عمره، فللمزارعين أن يعيدوا زرع الأمل في كل غصن، ليزهر ويصدّر للعالم رسالة تقول إنّ سوريا مهما تعثرت ستنهض وستبقى خضراء ومعطاءة كعادتها.
اقرأ أيضاً: سوريا عطشى: أزمة المياه تهدّد حياة الملايين والمستقبل مخيف!