في خطوة إستراتيجية نحو تحسين بنية الموانئ في سوريا وتعزيز قدراتها، أعلنت الهيئة العامة للمنافذ البرية والبحرية في سوريا، يوم الخميس الفائت 15 أيار، عن توقيع مذكرة تفاهم مع شركة “موانئ دبي العالمية” (DP World) بقيمة 800 مليون دولار، تتضمن استثماراً واسع النطاق لتحديث وتطوير البنية التحتية للموانئ والخدمات اللوجستية في البلاد.
وتشمل الاتفاقية -بحسب بيان رسمي صادر عن الهيئة- تطوير وتشغيل محطة متعددة الأغراض في ميناء طرطوس، بهدف رفع كفاءته التشغيلية وتعزيز دوره كمركز محوري للتجارة الإقليمية والدولية، كما تهدف إلى توسيع قدرة الميناء على استيعاب المزيد من البضائع وتحسين خدمات النقل البحري.
إلى جانب ذلك، اتفق الطرفان على التعاون في إنشاء مناطق صناعية وحرة وموانئ جافة ومحطات لعبور البضائع في مواقع إستراتيجية داخل الأراضي السورية، بهدف تعزيز التنمية الاقتصادية وتسهيل حركة التجارة والنقل في البلاد.
اقرأ أيضاً: مدير عام الموانئ يزور ميناء جبلة ويعد بدعم الصيادين وتطوير الميناء
نقلة نوعية في قطاع النقل
أكدت الهيئة العامة للمنافذ البرية والبحرية أن هذه الخطوة تعدّ جزءاً من رؤية الحكومة السورية لتطوير قطاع النقل واللوجستيات، وجذب الاستثمارات الأجنبية المباشرة للمساهمة في جهود إعادة الإعمار وتنشيط الاقتصاد الوطني.
واعتبرت وسائل إعلام غربية أن الاتفاق يمثّل محطة محورية في مساعي إعادة تأهيل البنية البحرية لسوريا، مؤكدة أن تطوير ميناء طرطوس يعزز من موقع البلاد الإستراتيجي على ساحل البحر المتوسط، ويفتح الباب أمام زيادة التبادل التجاري الإقليمي والدولي.
بدورهم، وصف مسؤولون سوريون الاتفاق بأنه “نقلة نوعية” من شأنها المساهمة في خلق فرص عمل، تنشيط حركة البضائع، وتعزيز دور سوريا كممر تجاري بين الشرق والغرب، ويُنتظر أن يسهم المشروع في تنشيط الموانئ وتحقيق مكاسب اقتصادية ملموسة على المديين القريب والبعيد.
وفي سياق متصل، شددت الهيئة العامة للمنافذ البرية والبحرية التزامها الكامل بالعمل المكثف خلال المرحلة المقبلة، واعتبرت أن ما تشهده البلاد اليوم يعدّ فرصة تاريخية لإطلاق مرحلة جديدة من التعافي والنهوض، كما أشارت إلى أن رفع العقوبات المفروضة على سوريا يشكّل منعطفاً حاسماً في تاريخ البلاد الحديث، والذي سيمكّن القطاعات الحيوية وخاصة النقل والتجارة من استعادة الزخم.
وأكدت الهيئة أن المرحلة القادمة ستشهد تحولات كبيرة على مستوى البنية التحتية والخدمات اللوجستية، من خلال تنشيط التجارة والنقل البحري والبري، وإدخال تجهيزات حديثة لتطوير الموانئ والمناطق الحرة والمعابر، وعبّرت عن تفاؤلها بجذب استثمارات كبرى في قطاع النقل، والتوسع في الشراكات مع شركات دولية متخصصة لإعادة تأهيل وتطوير المرافق الحيوية وفق أعلى المعايير العالمية، بما يسهم في تسريع عملية التعافي الاقتصادي.
اقرأ أيضاً: الغاز السوري.. هل تنجح الحكومة الجديدة بعملية الإنعاش؟
شركة “موانئ دبي العالمية”
وتعدّ شركة “موانئ دبي العالمية” إحدى أكبر الكيانات المتخصصة في تشغيل وإدارة الموانئ على مستوى العالم، وهي تتبع لشركة “دبي العالمية”، الذراع الاستثمارية الدولية لحكومة دبي.
ومنذ تأسيسها عام 1999، تطورت الشركة لتصبح لاعباً رئيسياً في قطاع النقل والخدمات اللوجستية، إذ تغطي أنشطتها مجالات الشحن البحري والبري والجوي، إضافة إلى الخدمات اللوجستية المرتبطة بها.
وحالياً، تشغل الشركة 78 محطة بحرية وبرية نشطة حول العالم، وتديرها من خلال شبكة واسعة تشمل أكثر من 50 شركة متخصصة، موزعة على نحو 40 دولة في ست قارات.
في المقابل، تمتلك سوريا عدداً من الموانئ البحرية الرئيسية التي تشكل شرايين حيوية للتجارة والنقل، وهي مرافئ طرطوس، اللاذقية، وبانياس، إضافة إلى مرافق أخرى قيد التأهيل والتطوير ضمن خطط تحديث البنية التحتية.
وتدار هذه الموانئ حالياً بشكل مباشر من قبل الهيئة العامة للمنافذ البرية والبحرية، والتي قامت مؤخراً بتجديد عقد استثمار محطة الحاويات في مرفأ اللاذقية لصالح شركة فرنسية متخصصة، والتي أفصح عن تفاصيلها مدير عام الموانئ السورية الدكتور عدنان حاج عمر في مقال سابق.
ومن المتوقع أن تشجع الاتفاقية الأخيرة مع شركة “موانئ دبي العالمية” مستثمرين آخرين من المنطقة والعالم على دخول السوق السورية، خاصةً في ظل تأكيد المسؤولين الأميركيين أن رفع العقوبات يهدف إلى تمكين الشعب السوري من المضي قدماً على طريق التعافي وفقاً لـ”رويترز”.
ميناء طرطوس
يعدّ ميناء طرطوس واحداً من أهم المرافئ البحرية في سوريا والمنطقة، ليس فقط لمكانته الاقتصادية، بل أيضاً لأبعاده الإستراتيجية التي أكسبته عبر السنوات موقعاً بالغ الأهمية على الخارطة الإقليمية والدولية، فهو ثاني أكبر موانئ البلاد بعد ميناء اللاذقية، ويشكّل البوابة الرئيسية للتجارة البحرية السورية نحو الأسواق العالمية.
ويقع الميناء على الساحل الشرقي للبحر الأبيض المتوسط، في موقع حيوي جعل منه محوراً رئيسياً لحركة الشحن الإقليمي، ونقطة جذب دائمة لاهتمام القوى الدولية، إذ يحتضن القاعدة البحرية الروسية الوحيدة في البحر المتوسط، التي تعود جذورها إلى حقبة الاتحاد السوفيتي، بحسب ما ذكرته “BBC Monitoring”.
وتُقدَّر الطاقة الاستيعابية الحالية لميناء طرطوس بنحو 4 ملايين طن من البضائع و20 ألف حاوية سنوياً، وهي أرقام مرشحة للارتفاع مع دخول خطط التطوير حيّز التنفيذ، إذ سيسهم هذا التوسع في تنشيط قطاع النقل البحري السوري، ويفتح آفاقاً جديدة للتعاون التجاري مع دول الجوار، بما يعزز موقع سوريا الاقتصادي على المستويين الإقليمي والدولي.
استثمارات في ميناء طرطوس
في عام 2019، وقّع النظام السوري السابق عقداً طويل الأمد مع شركة ستروي ترانس غاز الروسية لاستثمار مرفأ طرطوس التجاري لمدة 49 عاماً، قابلة للتمديد تلقائياً لـ25 عاماً إضافية، ما لم يعترض أحد الطرفين… وقد نصّ العقد حينها على التزام الشركة الروسية باستثمار نحو نصف مليار دولار لتطوير البنية التحتية للمرفأ وتجهيزه للتشغيل.
إلا أن السنوات التي تلت الاتفاق شهدت تعثراً واضحاً في تنفيذ تلك الالتزامات، وقد أشارت مصادر اقتصادية وتقارير إعلامية، مطلع العام الجاري، إلى أن العقد قد أُلغي فعلياً من قبل الحكومة السورية الجديدة، التي اعتبرت أن الشركة لم تفِ بشروط الاستثمار، وأن البنية التحتية للمرفأ بقيت على حالها دون أي تطوير يُذكر.
وذكرت صحيفة “الوطن” السورية نقلاً عن مدير جمارك طرطوس رياض جودي أن الإلغاء جاء نتيجة إخلال الطرف الروسي ببنود العقد.
في المقابل، نفت الشركة الروسية صحة هذه الأنباء في نهاية شهر شباط الماضي، مؤكدة أنها لا تزال تزاول عملها بشكل طبيعي، وأنه لم يتم إبلاغها رسمياً بأي قرار بإلغاء العقد.
وقال دميتري تريفونوف، الرئيس التنفيذي للشركة، لوكالة “رويترز” إن إنهاء العقد بشكل أحادي غير ممكن قانوناً، لأنه مصدّق عليه من قبل الرئيس والبرلمان السوري، وأي إجراء لإلغائه سيكون طويلاً وبيروقراطياً.
وفي ظل الجدل القائم حول مصير عقد الاستثمار الروسي في مرفأ طرطوس، ومع توقيع مذكرة التفاهم الجديدة مع شركة “موانئ دبي العالمية”، يثار تساؤل مشروع: هل ستواصل روسيا استثمارها في هذا الميناء، أم أن الشراكة الإماراتية ستغيّر قواعد اللعبة؟
أما قبل اندلاع الحرب في سوريا، شهد ميناء طرطوس توقيع عقد بين الشركة العامة لمرفأ طرطوس وشركة إنترناشيونال كونتينر ترمينال سيرفيسز (ICTSI) الفلبينية، لتشغيل محطة الحاويات الدولية، وكان من المقرر أن يمتد العقد لعشر سنوات، وبدأت الشركة أعمالها فعلياً في 28 تشرين الأول 2007.
غير أن الأوضاع الأمنية المتدهورة مع تصاعد وتيرة الحرب دفعتها للانسحاب المفاجئ في عام 2013، أي قبل نحو أربع سنوات من انتهاء العقد.
وفي بيان رسمي صدر حينها، بررت الشركة انسحابها بتفاقم الحرب الأهلية في سوريا وما رافقها من “أجواء عدائية وخطرة”، لافتةً إلى أن استمرار العمليات العسكرية شكّل تهديداً مباشراً للعاملين والمنشآت، ما دفعها لإعادة جميع موظفيها الفلبينيين إلى بلدهم.
ختاماً، يؤكد لنا انسحاب هذه الشركة الفلبينية من ميناء طرطوس، كيف أن عدم الاستقرار السياسي والأمني قد يعرقل حتى أكثر المشاريع الطموحة، ما يفتح باب التساؤلات حول قدرة الاتفاقية الجديدة مع “موانئ دبي العالمية” على الصمود، في ظل عدم استقرار الأوضاع حتى الآن… ومع ذلك، يفتح الحديث عن رفع العقوبات الأمريكية على سوريا نافذة أمل بإمكانية تحفيز الاقتصاد السوري وجذب استثمارات عالمية قادرة على الصمود ودفع عجلة إعادة الإعمار بعد سنوات طويلة من الحرب.
اقرأ أيضاً: هل طباعة العملة حل للأزمة الاقتصادية السورية؟