كتب: حازم ملحم (Hazem Mlhem)
قبل البدء بصلب الموضوع، أريد منك التركيز على الشيء التالي، والذي أريد قوله وهو: شخصياً، عندما تطرق على باب ذهني فكرة وتريد الدخول وخاصة حول كرة القدم، دائماً أرحب بها، وأحاول دائماً أن أحولها لمادة ملموسة لأشاركها معكم جميعاً. وهذه الفكرة إما أن تكون وليدة تفكير طويل، أو وليدة موقف أو لحظة حصلت أمام عيني على الواقع.
من يوم قريب وليس ببعيد، كنت بمباراة مع أصدقائي بملعب خماسي، وحين انتهائنا من المباراة، مررت بجانب ملعب صغير خماسي آخر محجوز من فتية بعمر الثمان سنوات كمتوسط أعمار لهم. في وقت مروري من جانب الملعب، توقفت ورأيت الأولاد الصغار “بدون مدرب”، وما أعنيه بـ”بدون مدرب” أنهم يقومون بالتصرف بطريقة فطرية بعيدة جداً عن الأكاديمية. وأنا بالتأكيد يمكنني التمييز بين الشكل الأكاديمي والشكل الفطري. مثلاً، عند تنفيذ فريق منهم للركنية، لاعب معين يقوم بالصراخ على رفاقه للتمركز بشكل جيد، ويقوم بدفع أحدهم للتقدم خطوتين ليقوم بتمركز استباقي على لاعب الخصم. أو عندما يقوم الحارس بتمرير الكرة لأحد لاعبي الدفاع لبدء الهجمة، يتحرك اثنان من اللاعبين على الرواقين الأيمن والأيسر لاستلام أي كرة طولية من قلب الدفاع أو الحارس. بل إنهم يقومون بضرب هذه المساحة الخالية بهذا الشكل بطريقة فطرية؛ “حدسهم” أخبرهم بذلك. وهذا على سبيل المثال لا الحصر أبداً.
مثال آخر رأيته، هو عندما يقوم لاعب من الخصم بالتوغل على الجهة اليمنى بعد تخطيه للاعب الفريق الأيمن، يقوم لاعب من الفريق المدافع بمراقبة اللاعب القادم من العمق مراقبة لصيقة لمنعه أو إزعاجه عند استلام الكرة من اللاعب المتوغل من اليمين. الكثير من هذه الأمور كانوا يقومون بها بدون أن يعلموا بشكل نسبي ماذا تعني هذه التصرفات بعلم كرة القدم. فهم يقومون بها كواجب، كهدف للدفاع عن الفريق أو للهجوم من أجله.
انتهى القسم الأول من مقالي، وهو القسم الذي أردت به أن أقوم بذكر هذا المثال الذي عشناه جميعاً ونحن بعمر الطفولة، من دون أن نعلم ماهية هذه التصرفات، وكانت بصراحة إيجابية جداً.
في إحدى مقابلاته، ذكر العراب مارسيلو بيلسا تمرين الجدار أو ما يسمى “La Pared”، وهو التمرين الذي يقوم باستخدامه معظم مدربي العالم. ويقوم تدريب الجدار على فكرة وجود لاعب على خط طرف الملعب ينتظر الكرة من زميله، وعندما يقوم زميله بتمرير الكرة له في ظل وجود لاعب من الخصم بينهم، يركض ممرر الكرة بعد تمريرها في ظهر الخصم، ويقوم اللاعب الموجود على طرف الملعب بالتمرير بالمساحة التي هي بظهر الخصم لكي يعود ويستلمها الممرر الأول بتلك المساحة بشكل مريح. الأمر ليس محصوراً بالتواجد على طرف الملعب، لكنه يدخل تلقائياً بعدها بذهن اللاعبين ويصبح ضمن تصرفات ذهنية تلقائية لخلق مواقف 2 ضد 1 ولخلق تلك المساحة وتلك التمريرة بشكل بديهي. سأقوم بشرح هذا التمرين بصورة بالتعليق الثاني.
وذكرت أن تمرين الجدار “La Pared” أننا كنا نقوم به بدون أن نعلم معناه بشكل رسمي، عندما كنا نمرر لجدار المدرسة الإسفلتي ونسبق الكرة لنعيد استلامها بظهر خصمنا، وهذا الجدار في التمرين يعد الزميل بشكل مجسد.
مثال آخر، وهو الآن أحد أشكال الدفاع للفرق، وأحد أشكال الدفاع التي يستخدمها المدرب لتمرين فريقه على الدفاع ككتلة واحدة ضد ولإيقاف الفريق المنافس من خلق مواقف تفوق عددي، كمواقف 2 ضد 1، أو 3 ضد 2 وهكذا. أحد هذه التمارين هو تمرين (السرب)، عندما يتحرك الفريق كسرب واحد وكتلة واحدة بدون كرة ليراقبوا الخصم المقابل لهم. وعندما يكون الخصم مستحوذاً على الكرة ويحاول الاختراق، يقوم المدرب بالتدريبات بالسماح لفريقه بالجري بشكل عرضي في الملعب بـ 22 لاعباً، كل لاعب يجاوره لاعب وهو زميله، ويلاحقه كظله، وهو نوع من أنواع الرقابة الوقائية بدون كرة. بعد هذا التمرين، تدخل عملية الدفاع بدون كرة باللاوعي الخاص باللاعبين، ويصبحون ضمن المباريات يدافعون بدون كرة بشكل وقائي بمراقبة الخصم… يستخدم هذا التمرين بشكل مكثف دييغو سيميوني في تدريباته مع أتلتيكو مدريد.
تمرين السرب هو نفس الشيء الذي كنا نقوم به كفريق من الأطفال، يدافعون بدون كرة بمراقبتنا للطفل الذي هو بالفريق الخصم بجوارنا، لكننا لم نكن نعلم أنه تمرين أكاديمي بحت ومميز.
كل هذه الأمثلة التي ذكرتها هي كي أتمنى أمنية، وأتمنى أن تكون حصلت وأنا لا أعلم أنها حصلت. أمنيتي هي أن أي مدرب أو أكاديمي، قبل أن يقوم بتدريب الأطفال بطريقة أكاديمية علمية بحتة، هو أن يسمح لأطفاله الذين هم لاعبيه بأن يلعبوا بفطرتهم أمام عينيه دون أن يخبرهم بشيء. مباراة واحدة، مباراتين، ثلاث مباريات، وبعدها يقوم باستخلاص أفضل ما لديهم بما يفيد الفريق بشكل عام. ينتقي أفضل خصالهم: اللاعب المهاري مثلاً، ينتقيه بحذر ويعلمه كيف يقوم باستخدام تفوقه الفني وهو “المرواغة والمهارة” بما يفيد الفريق جماعياً. اللاعب الجيد بقطع الكرات وقراءة اللعب بالفطرة كمثال آخر، يقوم بمساعدته ليقوم بقطع كرات أكثر، ويملي عليه ما هي وظائفه على عرض الملعب. اللاعب الجيد بفطرته بضرب المساحة وطلب الكرة بها بفطرته الكروية، يقوم بتعليمه التوقيت الممتاز لطلب الكرة بهذه المساحة.
اقرأ أيضاً: المنتخب السوري لكرة القدم: مشاكل يجب حلها للتأهل لنهائيات آسيا 2027!
طلبت هذه الأمنية وأنا أعلم أنها تحصل، والكثير من المدربين كانوا السباقين بتطبيقها قبل أن أذكرها، لكن أتمنى أن تتوسع وتطبق أكثر، خاصةً بقطاع الناشئين ضمن الأكاديميات.
كل الكلام الذي ذكرته فوق عن التمارين هو يفضي إلى شيء واحد، أن كرة القدم يرويها الشارع. كل لاعب موهوب فنياً بخاصية معينة كان يقوم بها بالشارع والحي مع رفاقه ومن تشاطر معهم كرة واحدة، والمدرب الجيد هو من لاحظ به هذه الخاصية وطورها معها لكي يصبح من لاعبي الصفوة وفي أفضل الفرق عالمياً… ولكي يعود بالفائدة الجماعية لفريقه.
في النهاية، مهما حاولنا أن نجعلها شيئاً رسمياً وتجارة إمتاع للبشر، هي شيء فطري بسيط وليد حاراتنا وشوارعنا وملاعب مدارسنا وأزقتنا أيضاً. وكما قال زدينيك زيمان: “كرة القدم هي الأكثر شعبية على الإطلاق، ليس بسبب الأعمال التجارية الضخمة، لكن لأن في كل زاوية من هذا العالم هناك طفل يركل الكرة”.
ربما كان كلام زيمان دفاعاً فقط عن شعبية اللعبة ببساطتها وضد تجارة الأموال الذي يعكر صفوها، لكن في هذا التصريح شيء عظيم، وهو الشيء الذي يؤكد على كل كلامي في الأعلى.