صغيرة في المساحة، كبيرة في الحكاية، وحيدة لكنها صاخبة بضحكات أهلها، بعيدة عن اليابسة لكنها قريبة من القلوب، تأسر من يراها قبل أن تطأ قدماه شاطئها… إنها جزيرة أرواد، عروس طرطوس، تروي بحجارتها وأزقتها قصة مجتمع صغير، مستقل، ومختلف، يحتفظ بهويته الخاصة خارج مفاهيم الجغرافيا المعتادة، وفي هذا المقال، سنذهب في جولة إلى هذه الجزيرة الساحرة، لنغوص في تاريخها ومعالمها.
يظنّ الكثير من الناس أن أرواد هي الجزيرة الوحيدة في الساحل السوري، لكن الحقيقة تخبئ بين أمواج البحر خمس جزر منسية، وهي العباس، أبو علي، النمل، المشار، والمخروط وتسمى بنات أرواد، وهي جزر غير مأهولة… جزيرة المخروط مثلاً، كانت تشكّل مرسى للسفن القادمة، ومنارة تهتدي بها المراكب، وملجأً للصيادين وقت العواصف، ومذبحاً حجرياً كان الأرواديون القدماء يقدمون فيه النذور والقرابين لإله البحر طلباً للحماية والرزق.
إلا أنّ أرواد مختلفة عن هذه الجزر المنعزلة والوحيدة، فهي مأهولة منذ أربعة آلاف عام، منذ أيام الفينيقيين الذين انطلقوا منها بحارة ومغامرين.
تاريخ جزيرة أرواد
حملت الجزيرة الساحرة عبر تاريخها الطويل أسماءً متعددة فكانت آراد وأرفاد وأردو وإدار، أما الرومان، فقد أطلقوا عليها اسم “مرفأ الأرجوان”، وفي زمن الكنعانيين أصبحت مملكة مستقلة اسمها “آرادوس”، وبهذا الاسم عرفها الإغريق، ويعني الملاذ والملجأ، إذ كانت ملجأً آمناً لأهالي الساحل السوري في وجه الغزوات الآشورية.
خضعت الجزيرة الفينيقية قديماً للسيطرة الآشورية، ثم أصبحت تابعة لنبوخذ نصّر الكلداني في عام 604 ق.م، قبل أن تدخل ضمن نفوذ الإمبراطورية الفارسية الأخمينية سنة 539 ق.م. وقد شارك بحّارتها في معركة سلاميس ضد الأثينيين عام 480 ق.م، وعندما جاء الإسكندر المقدوني في عام 331 ق.م، منحها حكماً ذاتياً، وسكّت النقود باسمه، وأقام فيها لعدة أشهر أثناء حملاته على الساحل الفينيقي.
وطوال تاريخها، بقيت أرواد تحتفظ بأهميتها الإستراتيجية، فكانت قاعدة للبيزنطيين، ثم فتحها العرب، لتنتقل لاحقاً إلى أيدي الصليبيين، حتى استعادها السلطان المملوكي قلاوون عام 1302 م… وفي ظل الحكم العثماني تم استخدامها كقاعدة عسكرية بحرية، لتتحول بعدها إلى قاعدة فرنسية سنة 1915، حيث سمّاها الفرنسيون “رواد”، واستخدموها لانطلاق هجماتهم ضد العثمانيين.
ولكن خلال فترة الانتداب الفرنسي تعرضت الجزيرة إلى أعمال تخريب كثيرة، ونُقل عدد كبير من آثارها إلى أوروبا، وبقيت تحت السيطرة الفرنسية حتى نالت سوريا استقلالها عام 1946، لتعود جزءاً من الوطن الأم، بعد أن تعاقب عليها حضارات عريقة.
اقرأ أيضاً: قلعة صلاح الدين: هندسة دفاعية تذهل العالم منذ ألف عام!
سكانها ومعالمها
تمتد جزيرة أرواد على رقعة صغيرة من البحر، لا تتجاوز 800 متر طولاً و500 متر عرضاً، يقطنها اليوم حوالي عشرة آلاف نسمة، مع غياب إحصائيات دقيقة بسبب التغيرات المستمرة الناتجة عن نمط الحياة المتحرك لأبنائها.
فالأرواديون ورثوا البحر، وهم من أمهر البحارة في شرق المتوسط، يعيشون على رزق البحر سواء من خلال الصيد أو التجارة البحرية أو القبطنة والعمل على السفن، كما يتقنون صناعة الشباك وصناعة القوارب، وقد توارثوا هذه المهنة العريقة أباً عن جد، فهم يصنعون القوارب بأسلوب يدوي على الطريقة الفينيقية القديمة، مستخدمين أخشاباً محلية مثل الكينا والسرو والتوت، إضافة إلى أنواع أخرى مستوردة من أوروبا.

أما المجتمع فيها فهو سوري متماسك، ينتمي كله لهوية واحدة ويتحدث العربية، لكن ما يميّزهم هو لهجتهم المحلية الفريدة، التي تشبه اللهجة الطرابلسية اللبنانية، ومن الطريف أنك حين تسأل أحد السكان: “من أين أنت؟” يجيبك: “من الزيرة”، وهو الاسم الذي يطلقونه على جزيرتهم.
وتشتهر أرواد بأطباقها الشعبية التي تعتمد على خيرات البحر، مثل السمك المشوي والمأكولات البحرية الطازجة، وتلعب التقاليد والحرف القديمة دوراً مهماً في الحياة اليومية، مثل الفنون الشعبية وصناعة الفخار والحرف اليدوية، بالطبع إلى جانب صناعة الشباك والسفن.
وإن كنت تتساءل كيف تصل المياه إلى هذه الجزيرة المنعزلة، فحتى عام 1993، كان السكان يعتمدون على جلب المياه من ينابيع عذبة تفور من قاع البحر، ثم حُفِرت بئر ارتوازية عام 1952، ثم جاءت مياه نهر السن في التسعينيات لتوفر حلاً أكثر استقراراً، أما الكهرباء فتصل إليها عبر كابلات مدفونة تحت قاع البحر، والنفايات فتُنقَل يومياً من الجزيرة إلى مكب في طرطوس، وهناك خطة لإنشاء معمل لمعالجة النفايات.
أما بالنسبة لمعالمها، فتمتاز بطابعها العمراني القديم وأزقتها الضيقة، أغلب بيوتها قديمة البناء، ما يميزها النوافذ الكبيرة والعالية التي تجعل من الصعب على المارة رؤية ما بداخلها.
وتحيط بالجزيرة بقايا سور قديم يعود إلى العصر الفينيقي، وهو مبني من حجارة ضخمة، يصل وزن بعضها إلى عشرين طناً، وارتفاعه كان يقارب عشرة أمتار، ويشكّل درعاً حصيناً حفظ الجزيرة عبر العصور.
ويوجد داخل الجزيرة معالم أثرية مهمة، منها معبد يعود للقرن الخامس قبل الميلاد، وبقايا ملعب رياضي كبير يعود للقرن السادس عشر قبل الميلاد، وقلعة شهيرة ببرجها الأيوبي، بناها الصليبيون في القرن الحادي عشر الميلادي، لكن أسسها تعود إلى الفترة ما بين القرن الثالث عشر والرابع عشر قبل الميلاد، حيث شُيّدت على أنقاض حصن مراقبة قديم.
ويحتوي المكان أيضاً على جامع كان في الأصل كنيسة من العهد العثماني، ثم حوله الفرنسيون إلى سجن لرجال الحركة الوطنية، واليوم صار متحفاً في أحد أبراج القلعة المركزية، يضم بين جنباته أجنحة متعددة تعرض الفخاريات القديمة، النقود الأروادية، الصدفيات البحرية النادرة، الإسفنج الطبيعي، الصناعات اليدوية، وأعمال الفن الحديث.
إلى جانب ذلك، تضم جزيرة أرواد ميناءً قديماً ما زال يعمل حتى اليوم، وقد شهد توسعة مهمة في عام 1966 ليواكب احتياجات السكان والنشاطات البحرية… وتحيط بالميناء مجموعة من المحال التجارية والمقاهي والمطاعم التي تشكّل مركزاً للتجمعات الاجتماعية والاقتصادية.
ورغم صغر حجمها، يوجد فيها مركز طبي كبير يقدم الخدمات الصحية للسكان، ومركز بلدي يُعنى بشؤونها الإدارية، كما توجد مدرستان، واحدة للمرحلة الابتدائية وأخرى تجمع بين الإعدادية والثانوية،
وخلال سنوات الحرب الطويلة في سوريا، لم تطلها نيران الحرب بشكل مباشر، لكنها لم تكن بمنأى عن آثارها السياحية والاقتصادية، كما شهدت أرواد خلال هذه السنوات بعض النزوح الداخلي، إذ لجأ إليها عدد من السوريين، خاصة من مدينة حلب، بحثاً عن مكان آمن نسبياً، ومع ذلك لم تتحول الجزيرة إلى منطقة مكتظة.
اقرأ أيضاً: قصر العظم: كنز معماري وجنّة عشّاق الفخامة والأصالة
السياحة في أرواد
اركب “الفلوكة”، ودع الموج يقودك إلى جزيرة أرواد… رحلة قصيرة لا تتجاوز نصف ساعة أو ربما أقل، لكنّها كفيلة بأن تنعشك بنسيم البحر ورائحته، رفقة الطيور وأشعة الشمس الدافئة.
فأرواد من أجمل المقاصد السياحية في سوريا، ستجد فيها كل ما يخطر في بالك، من المعالم التاريخية إلى الشواطئ الساحرة التي تتيح لك القيام بنشاطات متنوعة مثل السباحة والغوص والتجديف ورحلات القوارب.
وما يميزها الصمت الساحر بعيداً عن صخب المدينة، فهي منطقة صديقة للبيئة، ربما بسبب ضيقها، فلا يوجد فيها سيارات، أو يقال إن فيها سيارتين فقط ولكن حركتهما محدودة.
وفي أزقتها وبين أسواقها الصغيرة، ستجد أجمل الهدايا التذكارية المصنوعة يدوياً من الصدف ونجوم البحر والرمل، لتعود من رحلتك وأنت محمّلاً برائحة البحر.
وبالطبع يمكنك تذوق المأكولات البحرية على أصولها في المطاعم وأنت تستمتع بمياه البحر الفيروزية، أو ربما فقط تشرب كأس من الشاي وأنت تستمع إلى أغنياتك المفضلة، ولا تنسى التقاط الصور التذكارية في المقهى والمتحف الرائع والقلعة والشوارع.
وهكذا، ستعود من جزيرة أرواد حاملاً معك ذكريات جميلة وبالاً هادئاً وعقداً من صدف، لتقول لأصدقائك، إنها تجربة تستحق أن تًعاد.
اقرأ أيضاً: مكتب عنبر: ذاكرة دمشق الحيّة بين الحجر والحبر