في خضم التحولات المتسارعة التي تشهدها الساحة السورية، برز حدث يحمل دلالات استراتيجية وسياسية عميقة، تمثّل في إغلاق مكتب البوليساريو في دمشق، بالتزامن مع زيارة بعثة مغربية تحضيرية لإعادة فتح السفارة المغربية في العاصمة السورية. مشهد بدا أشبه بإعادة تموضع كامل في موقف سوريا من قضية الصحراء الغربية، ويكشف عن بداية عهد جديد في العلاقات بين الرباط ودمشق بعد قطيعة استمرت لأكثر من 13 عاماً.. إليكم التفاصيل الكاملة!
دمشق تغلق مكتب البوليساريو: رسائل أبعد من الدبلوماسية
أفادت وكالة المغرب العربي للأنباء أنّ الحكومة السورية الحالية أغلقت المقرات التي كانت تستخدمها جبهة البوليساريو في العاصمة دمشق. وأشارت إلى أن بعثة تقنية من وزارة الشؤون الخارجية المغربية عاينت بنفسها عملية الإغلاق خلال زيارتها الأخيرة إلى سوريا، في إطار التحضيرات لإعادة افتتاح السفارة المغربية المغلقة منذ عام 2011.
الخطوة، وفق مراقبين، لم تكن إدارية فحسب، بل تحمل مضموناً سيادياً وسياسياً، إذ أكدت السلطات السورية من خلالها احترامها الكامل لوحدة أراضي المملكة المغربية، وهو ما اعتبر تطوراً لافتاً في الموقف السوري من نزاع الصحراء الغربية.
تغيير جذري
يأتي هذا التحول في وقت أعلن فيه العاهل المغربي محمد السادس، خلال القمة العربية الرابعة والثلاثين في بغداد يوم 17 أيّار، عن قرار الرباط بإعادة فتح سفارتها في دمشق، واصفاً الخطوة بأنها بوابة لإعادة بناء جسور الثقة والتعاون بين البلدين.
وتُعدّ جبهة البوليساريو، المدعومة بشكل رئيسي من الجزائر، لاعباً رئيسياً في ملف الصحراء الغربية، وهي تطالب بإجراء استفتاء على تقرير المصير، وهو ما ترفضه الرباط بشدة وتطرح بدلاً عنه مبادرة للحكم الذاتي تحت السيادة المغربية. ولطالما كان دعم دمشق للبوليساريو خلال عهد السلطة السابقة نقطة خلاف أساسية بين البلدين.
ردود فعل متباينة
في تعليقه على الأمر، وصف سعيد زروال، الكاتب المقرب من جبهة البوليساريو، القرار السوري بأنه متسرّع ومفاجئ، معتبراً أنه يتعارض مع ما يُفترض أنه توجه ثوري للإدارة الانتقالية السورية. وقال في تصريح لموقع «+963» إن الخطوة تعكس خضوعاً لضغوط مغربية، إذ يرى أن الرباط اشترطت إغلاق مقر البوليساريو مقابل إعادة فتح السفارة.
في المقابل، اعتبر المحلل السياسي السوري حسام نجار أن القرار يندرج ضمن سياسة جديدة للإدارة السورية تهدف إلى التحرر من الاصطفافات السياسية السابقة التي تبنتها سلطة الأسد، والتي أدّت إلى عزل سوريا عربياً ودولياً لعقود. واعتبر أن السلطات السورية تسعى لتجنب التورط في أي ملفات خلافية، خصوصاً تلك التي تمس وحدة الدول العربية.
أزمة محتملة أم واقع جديد؟
القرار السوري حمل إشارات مباشرة للجزائر، الخصم الإقليمي للمغرب، والداعم التاريخي لجبهة البوليساريو. وفي هذا الإطار، أشار الصحفي المغربي والباحث السياسي أيمن مرابط إلى أن الخطوة السورية بمثابة قطيعة كاملة مع مرحلة الأسد-الجزائر، وأن على الجزائر إعادة النظر في علاقتها مع دمشق في ظل المعادلات الجديدة.
وحذّر زروال من انعكاسات محتملة على العلاقات الجزائرية السورية، مرجّحاً أن ترد الجزائر بتخفيض مستوى تمثيلها الدبلوماسي في سوريا، كما فعلت سابقاً مع دول أخرى اتخذت مواقف داعمة للرباط.
اقرأ أيضاً: وفاة 12 سورياً عطشاً في صحراء الجزائر خلال عبورهم إلى أوروبا
الدلالات الإقليمية لإغلاق مكتب البوليساريو
يقرأ مراقبون هذا التحول من زاويتين: الأولى تتعلق بمحاولة دمشق كسر عزلتها الإقليمية والعودة إلى الحاضنة العربية عبر تبني مواقف أقل حدة وأكثر انسجاماً مع المزاج العربي العام، والثانية ترتبط بمحاولة المغرب توسيع دائرة دعمه الإقليمي والدولي في ملف الصحراء، خصوصاً بعد سلسلة النجاحات الدبلوماسية التي حققها خلال السنوات الماضية.
ويذهب المحلل نجار إلى القول إن عدداً من الدول العربية قد تحذو حذو سوريا في تقليص أو إنهاء علاقتها مع جبهة البوليساريو، معتبراً أن الأولويات الاستراتيجية للدول العربية باتت أكثر براغماتية، وأقل رغبة في الانخراط في صراعات لا تخدم مصالحها المباشرة.
خطوة رمزية أم تعاون عملي؟
بينما وصف زروال إعادة فتح السفارة بأنها خطوة رمزية لن تجني منها دمشق مكاسب ملموسة، شدد مرابط على أن الرباط ترى فيها ضرورة لتطبيع العلاقات والعمل المشترك على ملفات حساسة، منها ملف المقاتلين المغاربة، وعودة اللاجئين السوريين، والتعاون الاقتصادي والثقافي في مرحلة إعادة الإعمار.
وبرغم أن المغرب لا يمتلك القدرات المالية الخليجية لدعم سوريا، إلا أن انفتاحه السياسي والدبلوماسي يشكل ورقة رابحة قد توظفها دمشق في سياق إعادة تموضعها الإقليمي.
هل تعترف سوريا بسيادة المغرب على الصحراء؟
بين الرمزية والواقعية، تبدو الخطوة السورية بداية محتملة لتغييرات أكبر في السياسة الخارجية السورية، خصوصاً إذا ما تبعتها خطوات لاحقة مثل الاعتراف الرسمي بسيادة المغرب على صحرائه. كما أن غياب ردود فعل سورية رسمية غاضبة من الجزائر حتى اللحظة، قد يشير إلى رغبة دمشق في ضبط إيقاعها الدبلوماسي لتجنّب التوتر مع طرف إقليمي مهم، مع الاستمرار في التقارب مع الرباط.
وفي ظل عودة سوريا إلى الجامعة العربية وتنامي الرغبة الإقليمية في تجاوز الصراعات، يبقى التساؤل مفتوحاً: هل نشهد في الأشهر المقبلة تحولاً حقيقياً في خريطة التحالفات داخل العالم العربي؟ أم أنّ ما يجري لا يعدو كونه تكتيكاً مؤقتاً؟