طوال سنوات الحرب والنزاع في سوريا، عانت البلاد من أضرار جسيمة طالت جوانب الحياة المختلفة، وكان قطاع الكهرباء من أكثر القطاعات المتضررة، فقد تعرضت الشبكات للاستهداف والتخريب الممنهج، ما فرض تقنيناً قاسياً عاشه السوريين لأكثر من عقد، وفي خضم هذا الواقع، تفاقمت ظاهرة سرقة الكابلات الكهربائية، لتشكل تهديداً إضافياً لما تبقّى من استقرار في التيار الكهربائي، وحتى اليوم لا تزال هذه الظاهرة موجودة بقوة، بل تزداد سوءاً.
سرقة الكابلات الكهربائية في سوريا
ومؤخراً، سهدت محافظة دير الزور تصاعداً في حوادث سرقة الكابلات الكهربائية، وقد تم تسجيل آخر هذه الحوادث في قلب المدينة، إذ أدت سرقة كابلات بطول نحو 45 متراً بين حيي الحميدية والشيخ ياسين، إلى انقطاع التيار الكهربائي عن المنطقتين، وتوقف الخدمات الأساسية للمواطنين، وقد تمكنت ورشات الصيانة في الشركة العامة لكهرباء دير الزور من التدخل وإصلاح الأضرار.
وتتكرر حوادث سرقة الشبكات ومراكز التحويل في المحافظة، ففي 24 نيسان الماضي، تم استهداف شبكة “مرس ألمنيوم” الكهربائية خلف منطقة الطلائع، وسرق مجهولون كابلات من الألمنيوم بطول كيلومتر ونصف، قُدّرت كميتها بنحو 2.25 طن، ما أدى إلى انقطاع الكهرباء عن الحي.
وتعرّض مركز “الحافظ” في حي الجورة لاقتحام من مجهولين ألحقوا أضراراً جسيمة بالمعدات، قبل أن تتدخل ورشات الصيانة لإصلاح الأعطال وإعادة الخدمة، وفي الحي نفسه، أُحبطت محاولة سرقة لمركز تحويل “اتحاد الفلاحين”، بعد أن فشل اللصوص في نهب البارات النحاسية التي كانت قد استُبدلت بأخرى من الألمنيوم.
اقرأ أيضاً: سوريا عطشى: أزمة المياه تهدّد حياة الملايين والمستقبل مخيف!
وبالطبع، لا تقتصر ظاهرة سرقة الكابلات الكهربائية على دير الزور، إذ تمتد إلى المحافظات السورية دون استثناء، في ظل تفاقم الانفلات الأمني وضعف الرقابة، ما يهدد بانهيار ما تبقّى من بنية تحتية كهربائية في البلاد، ويزيد من الضغوط اليومية على المواطنين.
وفي مدينة الصنمين شمال درعا، أقدم مجهولون بتاريخ 25 نيسان على سرقة الكبل الكهربائي المغذي للبئر الشمالي، ما أدى إلى توقف ضخ المياه وانقطاعها عن الأهالي، وزاد الطين بلّة بين انقطاع الماء والكهرباء.
وتتسارع وتيرة سرقات الكابلات بشكل ملحوظ في مدينة سلمية وريفها بريف حماة الشرقي، فقد سُجِّل منذ بداية العام الحالي أكثر من 140 حالة سرقة، طالت شبكات التغذية الكهربائية وألحقت بها أضراراً بالغة، وفاقمت هذه السرقات المستمرة من معاناة السكان الذين يقبعون أصلاً تحت وطأة انقطاعات متكررة في التيار.
أما في حمص، فقد عاش أكثر من 40 ألف شخص في أحياء مختلفة من المدينة خلال شهر آذار الماضي من دون كهرباء، بسبب سرقة الكابلات في الليل، واستمرت هذه الانقطاعات في بعض الشوارع من أسبوع إلى أكثر من شهر ونصف، وفي الحسكة المشهد أكثر جرأة، إذ تطال السرقات أبراج التوتر العالي في وضح النهار!
وتُشكّل تكاليف إعادة المحولات المسروقة أو المتضررة عبئاً مالياً كبيراً على وزارة الكهرباء، إذ تتراوح كلفة المحولة الواحدة بحسب استطاعتها بين 86 مليون و630 مليون ليرة سورية، يضاف إليها 10% تكاليف إضافية لشراء المواد، وأجور آليات تُقدّر بنحو 6 ملايين ليرة، ما يزيد من الحِمل الثقيل على الاقتصاد الوطني المتدهور أصلاً.
ورغم أن هذه الظاهرة ليست جديدة وعانت منها جميع المحافظات السورية طوال سنوات الحرب، إلا أنها زادت كثيراً بعد سقوط النظام نهاية العام الماضي، مع خروج أعداد كبيرة من المجرمين من السجون، وغياب قوانين رادعة أو تعاون فعال بين الأجهزة الأمنية والمواطنين، ما سمح للفاعلين بالسرقة دون خشية العقاب.
اقرأ أيضاً: نهر الفرات يلفظ أنفاسه.. من ينقذ شريان الحياة في سوريا والمنطقة؟!
ما عقوبة سرقة الكابلات؟
يعاقب القانون السوري -الذي لم يطرأ عليه تعديل حتى الآن- كل من أقدم على سرقة أو نقل أو إخفاء أو حيازة أو بيع أو شراء مكونات الشبكة الكهربائية أو شبكة الاتصالات، أو التعامل معها بأي وسيلة تسهم في إخفاء مصدرها أو تسهيل تصريفها، بالسجن المؤقت لمدة 10 سنوات على الأقل وبغرامة تعادل 5 أمثال قيمة المواد المسروقة.
ويشدد القانون العقوبة في عدد من الحالات، منها إذا وقعت الجريمة ليلاً، أو ارتكبها شخصان أو أكثر، أو كان أحد الجناة موظفاً أو متعهداً لدى الجهة المتضررة، أو استغل صفته الوظيفية لتسهيل السرقة، وأيضاً في حال استخدام السلاح أو العنف، أو إذا نجم عن الجريمة حريق أو أذى جسدي.
في المقابل، يمكن تخفيف العقوبة في ظروف محددة، كأن يبادر أحد المتورطين إلى إعادة المواد المسروقة قبل تعرضها للتلف، أو أن يدل على مكان وجودها من أجل استرجاعها، إلا أن هذا التخفيف لا يشمل بقية المشاركين في الجريمة.
ورغم إلقاء القبض على عدد من السارقين مؤخراً، إلا أن ذلك لم يكن كافياً لردع الآخرين، ما يدفعنا للتفكير في حلول أكثر حزماً وفعالية للحد من هذه الظاهرة المتفاقمة.
اقرأ أيضاً: سوريا تعود إلى خارطة السفر الإقليمية.. وقفزة نوعية في تصنيفات 2025
لماذا يسرقون الكابلات الكهربائية؟
طوال سنوات الصراع، تحوّلت سرقة الكابلات ولا سيما النحاسية منها، إلى مصدر دخل غير مشروع لفئات من السكان، ومع انحسار المعارك وتراجع إمكانية الوصول إلى المناطق المدمّرة التي كانت تُستخدم سابقاً لاستخراج النحاس من بقايا الأبنية والبنى التحتية (كجزء ممّا سمي بالتعفيش)، باتت شبكات الكهرباء الحكومية تمثل الهدف الأول والأكثر ربحاً للّصوص.
وتقوم هذه العمليات، التي تُسمّى محلياً بـ “التنحيس”، على سحب الكابلات الكهربائية لاستخراج النحاس منها وبيعه بالكيلوغرام بعد صهره، نظراً لارتفاع سعره في السوق السوداء.
لكن هذه المكاسب السريعة تأتي على حساب بنية تحتية متهالكة، إذ تخلّف كل عملية سرقة دماراً على مستوى أحياء أو قرى كاملة، وتؤدي إلى انقطاع الكهرباء عن مئات العائلات، في وقت تتطلب فيه عملية إعادة التيار فترات زمنية طويلة وتكلفة باهظة.
ولا تقتصر عمليات سرقة النحاس على الكابلات الكهربائية، بل تمتد لتطال خطوط الاتصالات الأرضية، وبحسب مصادر رسمية، شهد النصف الأول من العام الماضي سرقة نحو 24.996 متراً من خطوط الاتصالات الأرضية بتكلفة تقديرية بلغت 6.9 مليار ليرة سورية، في حين وصلت السرقات من الكابلات المعلّقة إلى 50,.253 متراً بتكلفة تجاوزت 3.2 مليار ليرة.
وفي عام 2023، سُرقت كابلات نحاسية بطول 57.079 متراً، بتكلفة قُدّرت بنحو 13.7 مليار ليرة سورية، وتجاوزت أطوال الكابلات المعلقة المسروقة 209.922 متراً، بتكلفة تقارب 10.5 مليار ليرة.
اقرأ أيضاً: إنعاش قطاع الثروة السمكية في سوريا.. خطة لإنتاج 10 ملايين إصبعية
ظاهرة عالمية
تعدّ سرقة الكابلات الكهربائية مشكلة كبيرة تواجه العديد من دول العالم، ففي جنوب أفريقيا على سبيل المثال، تعد سرقة الكابلات من أكبر المشاكل التي تؤثر على شبكة الكهرباء، وتزيد من أزمة انقطاع التيار، وقد قدرّت الحكومة هناك خسائرها بسبب هذه السرقات ما بين 280 و370 مليون دولار سنوياً، ما دفعها لاتخاذ إجراءات خاصة، مثل تشكيل فرق خاصة لمكافحة سرقة النحاس.
ولا يختلف الأمر كثيراً في الهند، فالسرقات تزداد خاصة في المدن، وتستهدف خطوط الكهرباء ومحطات التحويل، وفي عام 2018 فقط، خسرت السكك الحديدية حوالي 33 مليون دولار بسبب هذه السرقات، والخسائر الكلية تقدّر بمليارات الدولارات، وللحد من المشكلة، بدأت الحكومة في تركيب أنظمة مراقبة وتعزيز الأمن.
كما تعاني بعض الدول العربية – وعلى رأسها التي نكبتها الحروب – من نفس المشكلة، رغم وجود قوانين وعقوبات، لكن ضعف الرقابة الأمنية، وصعوبة ملاحقة السارقين، جعل الأمر يزداد سوءاً.
اقرأ أيضاً: هل تحرك الاستثمارات الأجنبية والعربية عجلة التعافي الاقتصادي في سوريا؟
فهل يوجد حلول حقاً؟
إنّ الوضع الاقتصادي المتردي في سوريا وصعوبة تأمين لقمة العيش يدفع الكثير من الناس لامتهان سرقة الكابلات على الرغم من علمهم بوجود عقوبات، والبعض الآخر أصبحت لديهم مجرد عادة يكسبون فيها أموال إضافية دون جهد.
ولمواجهة تفاقم مشكلة سرقة الكابلات الكهربائية، لا بد من اتباع مجموعة من الحلول المتكاملة، فمثلاً يمكن الحد من السرقات عبر تكثيف الدوريات، وتركيب كاميرات مراقبة، مع تعزيز التعاون بين الجهات المختصة وتشجيع المواطنين على التبليغ.
يمكن أيضاً استبدال الكابلات النحاسية بأخرى من الألمنيوم –رغم أنهم قد يسرقونها أيضاً- أو وضع أنظمة إنذار مبكر في الطرق الرئيسية على الأقل لتقليل فرص السرقة، كما يتطلب الأمر تعديل القوانين لتشديد العقوبات على مرتكبي هذا النوع من الجرائم، وتجريم شراء أو حيازة النحاس المسروق.
وبالطبع، فإن تحسين الظروف الاقتصادية وتوفير فرص عمل بديلة رواتبها مجزية وتؤمن حياة كريمة، يمكن أن يسهم في تقليل الدافع الاقتصادي وراء هذه السرقات، ولو أن هذا الحلّ ليس وارداً في الوقت الحالي.
ختاماً، تبقى سرقة الكابلات الكهربائية من التحديات التي تهدد استقرار قطاع الكهرباء في سوريا، والتي تحتاج إلى حلّ جذري بأسرع وقت، لأن استمرار هذه الظاهرة يعني المزيد من المعاناة للسوريين، والمزيد من الدمار لما تبقّى من البنية التحتية المتهالكة.
اقرأ أيضاً: سوريا بعد الحرب.. القطاع الصحي مشلول والشعب يدفع الثمن!