يعدّ داء الليشمانيا مرضاً قديماً كنّا نسمع باسمه منذ سنوات طويلة وهو مشهور بين الناس بـ”حبة السنة” أو “حبة حلب”، لأن انتشاره كان يقتصر على حلب وضواحيها وبعض مناطق وادي الفرات حتى عام 1960. لكنه لم يعد محصوراً هناك، وانتشر في أنحاء متفرقة من سوريا، حتى بات تهديداً صحياً واسع النطاق.
فما هو داء الليشمانيا، وما هي أسبابه وأعراضه، وهل هناك جهود تُبذَل للوقاية منه؟ هذا ما سنعرّفك عليه في السطور التالية.
الليشمانيا في سوريا
يعرّف داء الليشمانيا بأنه مرض ينتج عن طفيليات تنقلها ذبابة الرمل، هذه الحشرة الصغيرة التي تنشط عند الغروب وخلال الليل، وتتنقل من مكان إلى آخر بخفة داخل الأمتعة خلال التنقلات اليومية للسكان، لتباغت الشخص السليم بعد أن تمصّ دماء شخص مصاب، وتنقل له العدوى.
ويعدّ النوع الجلدي من المرض هو الشائع أكثر من غيره –يوجد أنواع أخرى مثل الحشوي والمخاطي- ويظهر على شكل نتوءات أو كتل جلدية صغيرة، تتحول فيما بعد إلى قروح قد تبقى لأشهر أو حتى سنوات، خاصةً إن لم تخضع للعلاج وإن كان المصاب يعاني ضعفاً في المناعة، وفي الغالب لا تكون هذه القروح مؤلمة لكنها تترك ندوباً وآثاراً خصوصاً في الأماكن المكشوفة مثل الوجه أو اليدين.
وتنتشر الليشمانيا في مناطق واسعة حول العالم، مثل أفريقيا، أمريكا الجنوبية والوسطى، جنوب شرق آسيا، وبعض مناطق أوروبا وشرق البحر المتوسط… وفي سوريا، ذكرنا بدايةً إنها كانت منتشرة في مناطق حلب حتى عام 1960، ولكنها بدأت تنتشر في المناطق الأخرى فيما بعد بشكل ملحوظ.
ففي ريف دمشق، وتحديداً في منطقة الضمير، تضاعفت الإصابات وارتفعت من 40 حالة فقط في عام 1987 إلى 2071 حالة في عام 1989، وبعدها بدأ المرض يتوطن في مناطق جديدة، وشهدت البلاد تصاعداً مستمراً في عدد الإصابات.
فقد أظهرت إحصائيات وزارة الصحة وجود 28,881 حالة عام 2003، و26,878 حالة في 2004، و21,951 في عام 2005، ومع بداية سنوات الحرب، عادت حلب في عام 2013 إلى واجهة الأزمة، إذ أكد تقرير لمنظمة لأمم المتحدة أن المرض بات يتكاثر بشكل خاص فيها.
وفي عام 2017، أصاب داء الليشمانيا 150 شخصاً في ضاحية الشام “ضاحية الأسد سابقاً” بريف دمشق، أما مدينة حماة، فقد سجّلت وحدها أكثر من 4600 إصابة في ذلك العام، إلى جانب 1524 حالة كانت قيد العلاج في أريافها الشمالية والشرقية والغربية كانت قيد العلاج، و1016 حالة موثقة سابقاً.
وارتفع عدد الحالات في عام 2021، إذ كان نحو 6,500 شخص في مدينة حماة يعانون من هذا الداء، الذي بدأ بالتفشي بقوة منذ منتصف 2020، ومع تعطل خدمات المستشفيات بسبب أزمة الوقود والتدهور الاقتصادي، بات الوصول إلى الرعاية الصحية تحدياً يثقل كاهل المواطنين.
أما في شمال غربي سوريا، أصبح داء الليشمانيا كابوساً يومياً خاصةً لسكان المخيمات، فقد شهد عام 2023 و2024 تضاعفاً في أعداد المصابين، نتيجة تلاقي ظروف بيئية صعبة، واكتظاظ سكاني، ونقص كبير في الرعاية الطبية، وكان الأطفال في مقدمة المتأثرين.
وفي ذلك الوقت، سجلت منظمة “MENTOR Initiative”، المتخصصة بعلاج حالات الليشمانيا، ما لا يقل عن 5500 إصابة خلال شهر واحد فقط، ضمن مراكزها المنتشرة من جرابلس حتى جسر الشغور، بما في ذلك المخيمات، ليكون رقماً صادماً يظهر حجم الأزمة التي يعاني منها السوريون وسط تجاهل وإهمال كبيرين في الاستجابة الإنسانية والصحية.
اقرأ أيضاً: تحديات اقتصادية بالجملة.. الفقر في سوريا يصل لمستويات قياسية!
عوامل الانتشار وجهود الوقاية
صحيح أن داء الليشمانيا كان منتشراً في سوريا سابقاً، لكن سنوات الحرب الطويلة وما رافقها من دمار وتهالك في البنية التحتية وإهمال البيئة جعله ينتشر كالنار في الهشيم، ذلك لأن البيئة تلعب دوراً خطيراً في انتشاره، فوجود مكبات القمامة المكشوفة، وضعف خدمات الصرف والنظافة، كلها تشكّل بيئة خصبة لتكاثر الذباب الناقل، وتزيد من فرص تفشّي المرض.
وكان الهلال الأحمر العربي السوري قد قدّم إجابات شاملة حول أهم الحقائق المتعلقة بهذا المرض، ووفقاً لإجاباته، فلا تعدّ العدوى حكراً على بيئة دون أخرى، إذ تنتشر غالباً في المناطق الريفية، لكنها طالت أيضاً أطراف المدن، بفعل التغيرات البيئية والمناخية، وتدهور خدمات الصرف الصحي والنظافة، وتفاقم الأوضاع المعيشية.
أما العوامل التي تزيد من خطر الإصابة فهي كثيرة: الفقر، سوء التغذية، الاكتظاظ السكاني، النوم في العراء أو على الأرض، وإزالة الغابات، كما أن التغيرات المناخية كالحر والجفاف والفيضانات تسهم في توسيع نطاق ذبابة الرمل، وبالتالي زيادة رقعة انتشار المرض.
ورغم أن بعض تقرحات الجلد قد تلتئم من تلقاء نفسها، إلّا أن العلاج يعدّ ضرورياً لتسريع الشفاء، وتقليل خطر التندب والانتكاس، خاصة لدى الحالات الشديدة أو تلك التي تصيب الوجه والمناطق الحساسة
وللوقاية من ذبابة الرمل، لا بدّ من رش المبيدات بشكل دوري، واستخدام الناموسيات، وارتداء ملابس تغطي الجسم، وتعزيز الرقابة الصحية، والكشف المبكر، والعلاج الفوري للحالات المصابة.
وبالفعل كانت تُبذل سابقاً جهود من منظمات أو مبادرات أو جهود فردية من أجل رش المبيدات، ومنذ أيام، أطلقت شعبة “رش المبيدات” في مجلس مدينة حلب حملة رشّ ضبابي استهدفت عدداً من أحياء المدينة، من بينها الفيض، بستان الزهرة، الجميلية، والسليمانية، ضمن خطة تمتد لثلاثة أشهر وتشمل مختلف مناطق المدينة للقضاء على الحشرات الناقلة للأمراض وخاصةً ذبابة الرمل.
وقد أوضح مسؤول قسم المتابعة في مؤسسة “البيئة النظيفة” (e clean) عبد السلام الراعي، في تصريح إعلامي أن الحملة تواجه تحديات كبيرة، أهمها تضرر أجهزة الرش وارتفاع تكاليف صيانتها، ولكن حملة “الوفاء لحلب” تكفلت بتأمين المحروقات لمدة شهر قابل للتمديد، إلى جانب صيانة 12 جهاز رش رذاذي، وأربعة أجهزة ضبابية.
أما المبيد المستخدم، فهو “سيرونيكس”، المصنف كمبيد للصحة العامة – هي مبيدات تستخدم للسيطرة على الآفات التي تشكل خطراً على الصحة العامة، مثل الحشرات والجرذان والحيوانات الضالة – ويعدّ من الأنواع الفعالة في مكافحة الحشرات الناقلة للأمراض الجلدية.
ختاماً، إن عملية رش المبيدات خطوة جيدة حالياً لمكافحة الحشرات التي تسبب الأمراض وخاصة ذبابة الرمل الناقلة لليشمانيا، ولكن القضاء على هذا الداء فعلياً لن يتحقق إلّا بزوال المسببات، لذا لا بدّ من تأهيل المناطق المدمرة والمنكوبة وإزالة الركام والحفاظ على نظافة البيئة سواء من الجهات المعنية أو من خلال حملات التوعية التي تحتّم على السكان الاهتمام بنظافة البيئة التي تحيط بهم.
اقرأ أيضاً: الكوكب يزداد قسوة: مناخ متحوّل وسوريا منسية في تقارير الإنصاف العالمي