إعداد: عروة درويش
بعد أكثر من 13 عاماً من الحرب والدمار، سقط رأس النظام الذي حكم سوريا بقبضة أمنية واقتصادية حديدية، لكن الليرة السورية كانت قد سبقته إلى الانهيار. يوم 8 كانون الأول 2024، عندما انهارت السلطة، وصلة الليرة إلى أعتى انهياراتها، فقد وصلت قيمتها في السوق السوداء إلى ما بين 22 و25 ألف ليرة مقابل الدولار، مقارنة بـ46.5 ليرة للدولار عام 2010. أي أن العملة فقدت ما يقارب 480 ضعفاً من قيمتها خلال هذه السنوات، وهو انهيار لا يحدث إلا في الدول التي تواجه حروباً وانهيارات كلية للدولة.
في ورقتها البحثية بعنوان: «سعر صرف الليرة السورية بعد سقوط نظام بشار الأسد»، تحاول الدكتورة رشا سيروب تفكيك هذا الانهيار المالي من جذوره، وتقديم رؤية مستقبلية لسيناريوهات ما بعد سلطة الأسد. وبينما تسلط الضوء على الأرقام والوقائع، تكشف الورقة كيف تحولت الليرة السورية من رمز للسيادة النقدية إلى ورقة فاقدة للقيمة الحقيقية، وتحذر من احتمالات كارثية إن لم يتم اتخاذ قرارات جذرية في المرحلة الانتقالية. إليكم أبرز ما جاء في بحث الدكتورة سيروب بشكل تبسيطي لغير المختصين:
من أين بدأ الانهيار؟ سنوات التآكل البطيء
لا يمكن فهم ما حدث للعملة السورية بعد سقوط سلطة الأسد دون العودة إلى السنوات الأولى من الحرب. منذ عام 2011، بدأت معالم الاقتصاد السوري تتآكل بالتدريج. عطلت الحرب سلاسل الإمداد، وتسببت بإغلاق آلاف المصانع والشركات، وهروب المستثمرين، وتجميد النشاط السياحي والخدمي، الذي كان أحد مصادر العملة الأجنبية.
لم تكن المشكلة فقط في الدمار، بل في القرارات الاقتصادية التي اتُخذت في ظل نظامٍ يتعامل مع السياسة النقدية بمنطق الطوارئ والبقاء. فبينما كانت موارد الدولة تتقلص، لجأت الحكومات المتعاقبة إلى أسهل وسيلة لتمويل العجز: طباعة الليرة. وبدلاً من الحد من الاستيراد أو دعم الإنتاج المحلي، جرى ضخ تريليونات من الليرات دون أي غطاء إنتاجي أو احتياطي نقدي.
النتيجة كانت متوقعة: تضخم هائل، وفقدان تدريجي للثقة بالعملة. فقد ارتفع حجم الكتلة النقدية من 2 تريليون ليرة عام 2010 إلى أكثر من 30 تريليون عام 2023، في الوقت الذي تراجعت فيه الاحتياطات الأجنبية من 19.5 مليار دولار إلى أقل من 500 مليون. هذا يعني عملياً أن المصرف المركزي لم يعد يملك أدوات للدفاع عن سعر صرف العملة، ولا حتى سلطة حقيقية على السوق.
ليرة واحدة، ثلاث مناطق، وثلاث عملات!
تعمق الانهيار النقدي مع التفتت السياسي والجغرافي في سوريا. فخلال سنوات الحرب، تقسمت البلاد إلى ثلاث مناطق رئيسية، ولكل منها عملتها الخاصة. في مناطق الحكومة المركزية بقيت الليرة تستخدم تحت إشراف المصرف المركزي، بينما سيطر الدولار على أغلب التعاملات في مناطق «الإدارة الذاتية»، واختفت الليرة من الشمال تماماً لتحل محلها «الليرة التركية».
خلق هذا الانقسام ما تسميه سيروب بـ«البيئة النقدية المفككة»، حيث لم تعد الدولة تمتلك سياسة مالية موحّدة، ولا حتى نظاماً مصرفياً شاملاً، بل مجرد مناطق تتعامل بعملات مختلفة، وفقاً لمصالحها وحلفائها. كانت النتيجة فقدان الليرة لوظيفتها كأداة للتبادل، أو وسيلة لحفظ القيمة. وأصبح الناس في معظم المناطق يفضّلون الذهب والدولار وحتى العملات الرقمية، على عملة بلادهم.
ما الذي تغيّر بعد سقوط السلطة؟
مع سقوط رأس النظام في كانون الأول 2024، بدا وكأن الأمل عاد إلى الشارع. إذ شهدت الليرة في الأيام الأولى ارتفاعاً مفاجئاً، مدفوعة بموجة تفاؤل بأن البلاد مقبلة على مرحلة جديدة من الاستقرار والانفتاح الاقتصادي. كما ألغت الحكومة الانتقالية بعض القيود على استخدام العملات الأجنبية، وفتحت الباب أمام بعض الحريات الاقتصادية، ما عزز الثقة – ولو بشكل مؤقت.
لكن بعد أسابيع فقط، عاد سعر الصرف للارتفاع، وعادت أزمة الثقة من جديد. لكن لماذا؟ لأنّ جذور الانهيار ما زالت قائمة: لا بنية تحتية، لا إنتاج، لا مؤسسات مالية حقيقية، ولا احتياطيات أجنبية. وبدون هذه الشروط، فإن أي استقرار في سعر الصرف هو مجرد وهم مؤقت، يمكن أن ينهار في أي لحظة.
بل إن الورقة البحثية تشير إلى أن التحسن المؤقت الذي حدث كان «مصطنعاً»، ولم يكن نتيجة لإصلاحات حقيقية، بل لمجرد ضخ محدود من الدولار عبر الحوالات من الخارج، وبعض العائدين إلى البلاد. ومع ارتفاع الأسعار، خاصة في المواد الأساسية، عاد التضخم ليلتهم أي تحسن طارئ.
إلى أين تتجه الأمور؟ ثلاث سيناريوهات محتملة
بناءً على المعطيات الحالية، تقدّم ورقة سيروب البحثية ثلاث فرضيات رئيسية لما قد يحدث لسعر صرف الليرة السورية:
أولاً: سيناريو الانهيار الكامل
وفقاً لبحث الدكتورة سيروب، في هذا السيناريو، تفشل الحكومة الانتقالية في بسط سيطرتها السياسية، وتتجدد الفوضى والانقسامات، ويفشل الحوار الوطني. مع غياب الدعم الدولي واستمرار العقوبات، تصبح الليرة عديمة القيمة، ويُستغنى عنها تماماً في التداول، لتحل محلها العملات الأجنبية. ويصبح الاقتصاد السوري مدولراً بالكامل، ما يعني نهاية الاستقلال النقدي بشكل فعلي.
وهو برأيي (أنا المعدّ عروة)، سيناريو يدفع إليه بشتّى الوسائل بعض المستفيدين، وخاصة المرتبطين بمؤسسات مالية أجنبية، أو حتّى سماسرة وكومبرادورية جدد. فالاستقلال النقدي يحدّ من قدرة هؤلاء على مراكمة النهب المالي، ويؤرّقهم بأن يفتح المجال لسلطات سورية تتمتع بنوع من الاستقلال المالي، بحيث تمنع الأمولة الكاملة وتوجّه النقد إلى الإنتاج بدل المضاربة.
ثانياً: سيناريو الاستقرار والتعافي
في حال تشكلت حكومة انتقالية شاملة وحظيت بدعم دولي، وتم رفع العقوبات، وبدأت عملية إعادة الإعمار، يمكن أن تعود الليرة تدريجياً إلى مسارها. بشرط أن يترافق ذلك مع سياسات نقدية صارمة، ومؤسسات اقتصادية قوية، واحتياطيات نقدية معقولة. عندها قد تعود الثقة بالعملة، وتبدأ في التحسن التدريجي، وإن كان ببطء.
ثالثاً: سيناريو الجمود والشلل
وهو السيناريو الأكثر خطورة على المدى المتوسط، حيث تبقى الحكومة الانتقالية رهينة للعجز الإداري والفساد، وتستمر بنفس ذهنية الحكومات السابقة، دون تغيير جوهري في طريقة إدارة الاقتصاد. قد لا يؤدي هذا المسار إلى انهيار سريع، لكنه يُبقي البلاد في حالة من التآكل البطيء، ويزيد من ضعف العملة، ويُبعد الاستثمارات الدولية.
ما المطلوب اليوم؟
تحذر سيروب من أن تجاهل الأزمة النقدية سيُفشل المرحلة الانتقالية، حتى لو نجح المسار السياسي. وتوصي باتباع نهج إصلاحي متكامل، يبدأ من استقرار سياسي فعلي، ويمر عبر ضبط الإنفاق العام، وتوجيه الدعم نحو القطاعات الإنتاجية، وبناء احتياطيات نقدية واقعية، وخلق بيئة قانونية واضحة للمستثمرين.
كما تدعو إلى اعتماد نظام «سعر صرف موجه»، لا هو ثابت كلياً ولا معوّم بلا ضوابط. أي أن يتم السماح بتحرك سعر الصرف وفق عوامل السوق، ولكن تحت رقابة مصرفية ومؤسساتية تضمن منع المضاربة والفوضى.
الليرة لم تمت… ولكنها لا تحتمل التأجيل
من المهم أن ندرك بأنّ الليرة السورية ليست ورقة نقدية للتبادل التجاري فحسب، بل هي – بالمعنى الرمزي وكذلك بالتطبيق العملي وهو الأهم – جزء من السيادة الوطنية الاقتصادية والسياسية، ومرآة للثقة العامة بمستقبل البلاد. واليوم، لم تعد القضية فقط مرتبطة بالسعر أمام الدولار، بل بقدرة الدولة على فرض عملتها، واستعادة ثقة مواطنيها والمجتمع الدولي الذي تريد التبادل تجارياً معه.
إذا استمرت السياسات العشوائية، وتجاهلت الحكومة المشكلة النقدية، فإن انهيار الليرة سيصبح جزءاً من انهيار أوسع يشمل الاقتصاد والمجتمع. أما إذا تم التعامل مع العملة كأولوية وطنية، فإن إنقاذها قد يكون بوابة لبناء اقتصاد حقيقي… وسوريا جديدة.
اقرأ أيضاً: إم بريدج mBridge يهدد هيمنة الدولار: كيف يعمل وما هي تداعياته الجيوسياسية؟