تعدّ سوريا من الدول الغنية بالثروات الطبيعية، إذ تمتلك احتياطات هائلة من النفط والغاز، إلى جانب الفوسفات الذي يشكّل ثاني أهم الثروات الباطنية في البلاد بعدهما، هذا المورد الذي لطالما لعب دوراً اقتصادياً مهماً في البلاد، بات اليوم محطّ أنظار الباحثين عن حلول لإعادة إنعاش الاقتصاد السوري… في هذا التقرير، نأخذكم في جولة على تاريخ الفوسفات في سوريا وتحولاته خلال سنوات الحرب، وفرص استثماره في المرحلة المقبلة.
حتى عام 2011، كانت سوريا في المرتبة الخامسة بين أكبر الدول المصدّرة للفوسفات في العالم، كما احتلت المرتبة ذاتها من حيث حجم الاحتياطي العالمي والذي يُقدّر بنحو ملياري طن، بحسب هيئة المسح الجيولوجي الأمريكية في تقريرها لعام 2021، ورغم هذه المراتب المهمة، لم تصل عمليات الاستكشاف والإنتاج إلى المستوى المنشود، إذ لا يتجاوز الإنتاج السنوي 3.5 ملايين طن.
وتنتشر مكامن الفوسفات السوري في ثلاث مناطق رئيسية: السلسلة التدمرية (خنيفيس والشرقية والرخيم)، منطقة الحماد (الجفيفة والثليثاوات والسيجري والحباري)، والمنطقة الساحلية (عين ليلون وعين التينة وقلعة المهالبة وحمام القراحلة).
وتعدّ مناجم خنيفيس والشرقية في تدمر من أهم المناجم، إذ تصل سماكة طبقات الفوسفات فيها إلى 20 متراً في بعض المناطق، وتمتاز بجودة عالية تتراوح فيها نسبة خامس أكسيد الفوسفور بين 28 و34%، مقارنة بـ18 إلى 22% في باقي المواقع.
لكن على الرغم من الإمكانيات الكبيرة، واجه قطاع الفوسفات تحديات هائلة نتيجة الحرب والصراعات، والتي طالت البنية التحتية وألحقت أضراراً كبيرة بخطوط الإنتاج ومرافق التصنيع، ما أدى إلى تراجع كبير في مستويات التصدير والإنتاج.
اقرأ أيضاً: القمح السوري: مواصفات عالمية تحجبها التحديات!
قصة ازدهار دمّرتها الحرب
يمتد تاريخ الفوسفات في سوريا إلى حوالي قرن من الزمن، إذ تعود أولى محاولات الاستكشاف إلى ثلاثينيات القرن الماضي، عندما قامت السلطات الفرنسية بإجراء دراسات أولية في منطقة السخنة، ولكن لم يبدأ التحول الجدي نحو استثمار الفوسفات فعلياً إلا في الستينيات، حينما أطلقت بعثة جيولوجية سوفيتية دراسات مكثفة كشفت عن وجود كميات ضخمة من الفوسفات في البادية السورية.
وفي عام 1970، تأسست الشركة العامة للفوسفات والمناجم (GECOPHAM) لتكون مؤسسة وطنية مسؤولة عن إدارة واستثمار هذا المورد، وبعد عام واحد فقط، تم إطلاق منجم خنيفيس الذي يعدّ أكبر منجم للفوسفات في البلاد، بطاقة إنتاجية أولية بلغت نحو 300 ألف طن سنوياً.
ونما قطاع الفوسفات السوري بشكل ملحوظ في العقود التالية، إذ ارتفعت الاحتياطات المؤكدة إلى نحو 1.8 مليار طن بحلول عام 2009، وبحلول عام 2011، أصبحت سوريا خامس أكبر دولة مصدّرة للفوسفات عالمياً مع صادرات سنوية تجاوزت 3.2 مليون طن.
وجاءت الحرب في عام 2011 لتدمّر قصة الازدهار هذه، فأصيب القطاع بالشلل الجزئي، وتراجعت كمية الإنتاج إلى نحو 1.2 مليون طن فقط بحلول عام 2014، بانخفاض تجاوز 68% مقارنة بعام 2010.
وبحلول منتصف 2015، توقّف الإنتاج بشكل شبه كامل بعد سيطرة تنظيم “داعش” على معظم المناجم، والقيام بتخريبها وسرقة معداتها، مصحوباً بالضربات الجوية الأمريكية التي استهدفت منشآت المعالجة والتجفيف، وأدت إلى تدميرها بالكامل.
وعندما بدأت حدة الصراع تتراجع في بعض المناطق، بدأ القطاع يتعافى تدريجياً من عام 2018، فقد تم تسجيل متوسط إنتاج سنوي بلغ نحو 350 ألف طن حتى عام 2020، وفي عام 2021، ارتفع الإنتاج بنسبة 214% مقارنة بالعام السابق، ليصل إلى 1.1 مليون طن، ومع ذلك، يبقى هذا الرقم بعيداً عن ذروة الإنتاج المسجلة قبل الحرب.
اقرأ أيضاً: موسم الحمضيات في سوريا.. بين تباين الأرقام وانتعاش الأسواق الخارجية!
الفوسفات رهينة الصراعات السياسية
قبل سقوط نظام بشار الأسد في نهاية عام 2024، كان يتم تصدير الفوسفات السوري إلى إيران وعدد من الدول الأوروبية من خلال شبكة معقدة من الشركات والوسطاء، وقد وقّع النظام آنذاك اتفاقاً مع إيران لاستثمار وتطوير إنتاج من 3.7 إلى 10 ملايين طن سنوياً، من خلال إقامة مصانع جديدة للغسيل والتركيز والتجفيف، وتطوير البنى التحتية المرتبطة مثل سكة الحديد ووحدة التخزين والتحميل في مرفأ طرطوس.
إلى جانب ذلك، عقد النظام السابق اتفاقاً طويل الأمد مع شركة ستروي ترانس غاز الروسية، منحها امتياز استثمار مناجم الفوسفات في تدمر لمدة 50 عاماً، بإنتاج سنوي يصل إلى 2.2 مليون طن من أصل احتياطي يقدر بـ105 ملايين طن.
ولكن المعادلة تغيرت بعد سقوط النظام، إذ خرجت إيران نهائياً من المشهد السوري في قطاع الفوسفات، وبقيت الأنظار تتجه نحو الاتفاقية الروسية التي أثارت جدلاً واسعاً.
وتعليقاً على ذلك، نقلت وكالة “رويترز” في كانون الثاني الماضي عن ثلاثة رجال أعمال سوريين أن الحكومة السورية المؤقتة ألغت الاتفاق مع الشركة الروسية التي كانت تدير أيضاً مرفأ طرطوس، كما أفاد مصدر دبلوماسي روسي بأن ستروي ترانس غاز هي شركة خاصة وليست تابعة للدولة الروسية، وأن ملكيتها مقسمة بالتساوي بين شركاء روس وسوريين، من بينهم شركة تابعة لمجموعة “القاطرجي” المقرّبة من النظام السابق، بحسب الشرق الأوسط..
ووفقاً للمصدر، فإن قرار الحكومة الجديدة بوقف العمل بهذه الاتفاقيات هو إجراء متوقع وسيشمل جميع المشاريع التي أُبرمت بين النظام السابق وروسيا، خاصة تلك التي جرت بتنسيق بين رجال أعمال مقربين من عائلة الأسد وشركات خاصة.
ورغم ذلك، تبقى عقود استثمار مناجم الفوسفات مع ستروي ترانس غاز واحدة من القضايا المعلقة، والتي لم تصدر فيها الحكومة السورية أي قرار بعد، إذ يجري التفاوض فيها حتى الوقت الحالي، وذلك إلى جانب عقد مرحلة جديدة في بناء ميناء طرطوس، وبناء مصنع للأسمدة في حمص، وتطوير امتيازات الغاز الطبيعي البحرية العملاقة.
اقرأ أيضاً: هل يتعافى قطاع النحل في سوريا بعد سنوات من الركود؟
إحياء قطاع الفوسفات في سوريا
منذ بداية العام الحالي، تخطو الحكومة السورية خطوات عملية لإعادة إحياء قطاع الفوسفات، عبر استئناف التصدير إلى الأسواق الدولية، في محاولة لتعزيز احتياطاتها من القطع الأجنبي، ويقدّر احتياطي سوريا من الفوسفات بنحو 100 مليار دولار، ما يجعله من أهم الأدوات لدعم الاقتصاد الوطني الهش، وذلك رغم التحديات التي تواجه عمليات التصدير، وخاصة العقوبات الغربية.
وفي 22 نيسان 2025، غادرت أول شحنة من الفوسفات السوري مرفأ طرطوس، وكانت الباخرة التي أبحرت محمّلة بـ10 آلاف طن من الفوسفات الخام، ومع نهاية الشهر ذاته، صدّرت سوريا شحنة ثانية بنفس الكمية، دون أن تكشف الحكومة عن الوجهة النهائية لكل من الشحنتين.
وفي الوقت الحالي، تستعد باخرة ثالثة من الفوسفات المحلي عالي الجودة لمغادرة مرفأ طرطوس خلال الأيام القليلة المقبلة، متجهة إلى رومانيا، وتبلغ سعة الباخرة 30 ألف طن موزعة على ثلاثة عنابر، سعة كل منها 10 آلاف طن، وتسير عمليات التحميل بسلاسة وكفاءة مع التزام كامل بمعايير السلامة والتخزين البحري.
اقرأ أيضاً: سوريا عطشى: أزمة المياه تهدّد حياة الملايين والمستقبل مخيف!
أسواق الفوسفات التقليدية وفرص الاستثمار الجديدة
شكّلت أسواق أوروبا الوسطى والشرقية منذ بدء استثمار الفوسفات في سوريا، الوجهة التصديرية التقليدية بسبب عوامل تتعلق بالقرب الجغرافي وتكاليف النقل المنخفضة، أما في أسواق بعيدة مثل الهند والصين ودول شرق آسيا، تفقد هذه الخامة الكثير من جاذبيتها، نتيجة ارتفاع تكاليف الشحن البحري ورسوم عبور قناة السويس.
ورغم أن الفوسفات السوري لا يندرج ضمن السلع الخاضعة مباشرة للعقوبات الأميركية التي تم فرضها بعد الحرب، إلا أن الحذر الذي تبديه الشركات الغربية تجاه التعامل مع سوريا يبقى عائقاً أمام عودته القوية إلى الأسواق الأوروبية، ويعزى ذلك إلى مخاوف من ضغوط أو مضايقات اقتصادية أميركية غير معلنة، إلى جانب تعقيدات ترتبط بالمصارف وخدمات النقل والتأمين.
وحالياً ورغم التحديات، بدأت مؤشرات اهتمام جديدة من دول تسعى لدخول قطاع الفوسفات السوري، فقد أشار الخبير الاقتصادي ورئيس مؤسسة “اقتصاد ووطن”، رازي محيي الدين، إلى أن دول الخليج العربي تتصدر قائمة المهتمين بتوسيع استثماراتها في سوريا وتعزيز شراكاتها الاقتصادية الإقليمية، بحسب ما قاله لـ”عنب بلدي”.
كما يرى محيي الدين أن الصين تبدي اهتماماً إستراتيجياً بموارد سوريا الطبيعية، في سياق مشروعها الأوسع في أسواق الشرق الأوسط، وتتابع تركيا كذلك هذا الملف رغبةً في الاستفادة من الثروات المعدنية السورية، ومن المحتمل أن تظهر كل من الهند وعدد من الدول الأوروبية اهتماماً مشابهاً إذا ما توفر المناخ الاقتصادي المناسب.
اقرأ أيضاً: رفع القيود على تصدير البضائع السورية لتركيا والأردن
فرصة اقتصادية واعدة لسوريا
ويؤكد الخبير الاقتصادي أيضاً أن الفوسفات يمكن أن يصبح مصدراً رئيسياً للعملة الصعبة في سوريا، بعائدات تُقدّر بمليارات الدولارات سنوياً، إذا تم استغلاله بشكل صحيح.
كما يرى أن التصنيع المحلي لأسمدة الفوسفات أفضل من الاكتفاء بتصديره خاماً، لكنه يشير إلى أن ضعف البنية التحتية حالياً يجعل التصدير الخام هو الخيار المؤقت، ودعا كذلك إلى إنشاء صندوق سيادي يخصص جزءاً من عائدات الفوسفات لمشاريع تنموية مستدامة تخدم الاقتصاد والأجيال القادمة.
الفوسفات في سوريا 2025
بينت تقارير حديثة أن صادرات الفوسفات السوري قد تشهد انخفاضاً طفيفاً في عام 2025، بسبب استمرار الأوضاع الجيوسياسية غير المستقرة في المنطقة، ومع ذلك، يعتقد الخبراء أن هناك إمكانيات كبيرة لزيادة الإنتاج في حال تحقق الاستقرار السياسي.
ومن المتوقع أن يرتفع الطلب على الفوسفات على الصعيد العالمي، بسبب النمو السكاني وزيادة الحاجة إلى الغذاء، وقد يزيد الاعتماد على الفوسفات السوري إذا استمر تراجع الإمدادات من بعض الدول الكبرى المنتجة.
وفي الوقت نفسه، يتوجه السوق العالمي بشكل متزايد نحو استخدام الأسمدة الفوسفاتية المستدامة والصديقة للبيئة، لذا قد يتعين على سوريا تبني تقنيات حديثة في استخراج ومعالجة الفوسفات لتلحق بالركب وتتمكن من الحفاظ على قدرتها التنافسية في السوق.
في الختام، بين وفرة الاحتياطات وضعف الاستغلال والصراعات السياسية التي لم تنتهِ، يبقى قطاع الفوسفات في سوريا مرآة عاكسة لكل التحولات السياسية والاقتصادية التي مرت بها البلاد… ورغم التحديات والصعوبات التي تقف في وجهه، إلّا أنه يمثل فرصة كبيرة لإعادة إحياء الاقتصاد السوري شريطة توفر بيئة مستقرة وآمنة للاستثمار والتنمية، وإذا ما تم استثمار هذه الإمكانات بالطريقة الصحيحة، قد يصبح قطاع الفوسفات أحد الركائز الأساسية التي تدعم الاقتصاد الوطني في المستقبل.
اقرأ أيضاً: كل شيء عن البنك المركزي السوري ودوره في إنعاش الاقتصاد