بقلم: لمى ابراهيم
دخل الفنان السوري الشاب الشهير بـ”الشامي” التاريخ من أوسع أبوابه، بعدما أصبح رسمياً أصغر فنان يتصدر قائمة بيلبورد أرابيا “billboardarabia” لأفضل 100 فنان، بعمر لم يتجاوز 23 عاماً، محققاً بذلك رقماً قياسياً عالمياً خوّله دخول موسوعة غينيس للأرقام القياسية! إنّه إنجاز مهم حقاً ورائع، ومن سبب دخوله غينيس نبدأ الحديث، ولكننا لن نتوقف هنا… بل سنذهب أبعد قليلاً لنناقش الفجوة الموسيقية بين الأجيال، وكيف تتشكل الأذواق وتختلف مع مرور الزمن.
الشامي يدخل غينيس
دخل الشامي موسوعة غينيس بفضل أغنيته وين، والتي شكّلت منذ إطلاقها حالة فنية فجّرت السوشيال ميديا واجتاحت المنصات الرقمية وسجّلت حتى اليوم –أي في أقل من سنة- أكثر من 200 مليون مشاهدة على منصة يوتيوب، بسبب كلماتها التي تعبّر عن روح الجيل الجديد، ولحنها الذي دمج بين الروح الشرقية والإيقاع العصري… ومع هذا الانتشار الهائل، وصلت الأغنية إلى قمة قائمة بيلبورد أرابيا، والتي تعدّ اليوم مقياساً حقيقياً لنجاح الأغاني في العالم العربي.
وقد جاء التعاون بين بيلبورد أرابيا وموسوعة غينيس ليوثق هذا الإنجاز عالمياً، ويضع الشامي في مصافّ الأسماء التي غيّرت ملامح الموسيقا المعاصرة في المنطقة!
فمن هو الشامي الذي كسّر الدنيا!
عبد الرحمن الشامي، ابن دمشق المولود عام 2002، بدأ مسيرته الفنية عام 2021، إلّا أن نجمه لم يسطع إلى عام 2023 مع النجاح الساحق الذي حققته أغنية ياليل ويالعين التي تصدرت التريند عربياً ووصلت لأكثر من 256 مليون مشاهدة على يوتيوب حتى اليوم، تلتها أغنية صبرا التي حققت بدورها 183 مليون مشاهدة.
نال الشامي خلال مسيرته الفنية القصيرة جائزة من مهرجان جوي أووردز Joy Awards الذي أقيم في السعودية في مطلع العام الجاري، وشارك كذلك بحفل مع الفنان جورج وسوف في دبي، ما زاد من جماهيريته وشعبيته خاصة بين جيل الشباب.
وفي أعماله، يركز الشامي بشكل ملحوظ على الطابع السينمائي إلى جانب الكلمات والألحان، إذ تأتي أغانيه غالباً مصورة بطريقة بصرية مشوقة، كما يعتمد على أصوات جميلة ومتناسقة من “الكورَس” ما يعطي أغانيه ثِقلاً يجعل الملايين يستمعون لأغنياته ويرددونها.
ولكن رغم هذه الجماهيرية الكبيرة والشهرة المتصاعدة، لم يسلم الفنان الشاب من الانتقادات، ففي الوقت الذي يعتبره كثيرون من أكثر الفنانين الشباب موهبة وصعوداً، يرى البعض أن نجاحه السريع يفتقر للأسس الفنية المتعارف عليها.
على سبيل المثال، يرى الناقد السوري فراس القاضي في تصريح إعلامي بأن أغنية صبرا لا يمكن تقييمها فنياً، كما يصفها بأنها مؤشر على “تردّي الذوق الثقافي”، مضيفاً أن الشامي “يعرف تماماً ما يفعله ويستغلّ شهرة المنصات لجني الأرباح حتى دون محتوى واضح”.
أما الفنان عبد الكريم حمدان، فقد اتهم الشامي بشراء مشاهدات وهمية عبر يوتيوب، خاصة بعد أن تجاوزت أغنيته خدني 14 مليون مشاهدة خلال أسبوعين فقط.
ورغم كل هذا الجدل الذي أثاره، تعالت أصوات أخرى تدعو لعدم فرض وصاية على الذوق الفني، مؤكدةً أن لكل جيل أدواته وطرق تعبيره، وأن الحلّ لا يكون في التقييد، بل في فتح حوار واعٍ حول ما نستهلكه فنياً.
اقرأ أيضاً: «سرطان السوشيال ميديا» ينهش ما تبقّى من إنسانيتنا!
هذه الانتقادات، أو الآراء المتباينة التي تعرّض لها الشامي – كما الكثير من الفنانين الشباب الذين يمثلون الأغاني الحديثة – تجعلنا نتوقف قليلاً لنتساءل: لماذا تختلف الذائقة الموسيقية بين الأجيال؟ ولماذا دائماً ما تتحول الموسيقا إلى ساحة صراع خفيّ بين الأجيال؟
إنها حقاً ساحة صراع، فمن منا لم يسمع من أهله عبارات مثل: “ما هذه الأغاني الهابطة؟” أو “أين أيام الطرب الأصيل؟”، في انتقاد مباشر لما نسمعه اليوم… ولكن ما يجعلنا نتساءل عن سبب الفجوة ونقف عندها، أننا نحن -جيل التسعينيات- نمارس النقد ذاته مع الجيل الأصغر -جيل الألفية- ونتعامل مع أغانيهم بنوع من الاستغراب أو حتى الرفض، رغم وعينا التامّ أن لكل جيل صوته، وظروفه، وحاجاته العاطفية والاجتماعية التي تنعكس في موسيقاه.
فهل ننتقدهم حقاً لأن موسيقاهم سيئة وهابطة؟ أم لأننا لا نشعر بها كما يشعرون؟ ومن هنا، يبدأ بحثنا في فهم هذه الفجوة: ما الذي يجعل الأذواق الموسيقية تتغير عبر الزمن؟ وما الأبعاد النفسية والاجتماعية لهذا الاختلاف؟ ولماذا تميل الأجيال إلى الدفاع عن موسيقاها وكأنها هويتهم التي لا يقبلون التنازل عنها؟
يرى الشاعر اللبناني علي المولى، المعروف بأغانيه الواقعية وعمق كلماته –أشهرها شارة مسلسل الهيبة أزمة ثقة- أن العولمة لعبت دوراً أساسياً في تشكيل هذه الفجوة، فهو يعتبر أن اندماج الحضارات والموسيقا العالمية منح الأغنية العربية نفساً جديداً ومنحها اختصاراً وسرعة في الإيقاع، فقال: “العولمة علمتنا الاختصار، فبعد أن كانت مدة الأغنية أربع دقائق، هناك اليوم أغانٍ لا تتجاوز الدقيقتين”.
ويضيف المولى أن هذا التغيير تعدّى الشكل ليطال المضمون، إذ أصبحت الأغاني أكثر جرأة وصراحة، وبدأت تتناول قضايا ذاتية واجتماعية بعيداً عن القوالب التقليدية، لكنه في الوقت نفسه يحذّر من الجانب المظلم للعولمة، والتي -برأيه- “طمست الهوية المشرقية في كثير من الأعمال الفنية، عبر اعتماد الإيقاعات الغربية بهدف إرضاء الذوق المعاصر، على حساب الأصالة”.
ولكن في المقابل، يفسّر آخرون هذا الأمر بطريقة أبسط، فالتغيّر برأيهم، ليس بالضرورة تعبيراً عن الانحدار، بل قد يكون محاولة جيل جديد لرسم ملامحه الخاصة، ويؤكدون أن الذوق الفني لا يجب أن يكون مجالاً لفرض الوصاية، بل مساحة للاختلاف والتنوع.
اقرأ أيضاً: من بداية خجولة إلى القمة: كيف أصبحت الدراما السورية سيدة الشاشات؟
إذاً كيف غيّرت التكنولوجيا أذواق الأجيال؟
انطلاقاً من رؤية الشاعر اللبناني علي المولى بأن العولمة لعبت دوراً جوهرياً في تغيير شكل ومضمون الأغنية العربية، يظهر بوضوح تأثير الإنترنت ومنصات البث الموسيقي في دعم هذا التحول، فقد أصبحت الموسيقا، بفضل هذه الأدوات الرقمية، جزءاً لا يتجزأ من الحياة اليومية لملايين المستخدمين حول العالم.
توفر منصات مثل Spotify وYouTube Music وApple Music وAmazon Music محتوى مصمماً خصيصاً ليناسب تفضيلات كل مستخدم، معتمدة على أنظمة ذكية تراقب سلوك الاستماع وتوصي بالمحتوى بناء عليه. هذا التخصيص ساهم في تنوع التجربة الموسيقية وتوسيع نطاق الوصول إلى أنواع موسيقية متعددة.
وخلال السنوات الأخيرة، شهدت خدمات البث الموسيقي ازدهاراً ملحوظاً إذ ارتفع عدد المستخدمين من 341 مليوناً في عام 2019 إلى 487 مليوناً بحلول عام 2021، ما يؤكد على تزايد الاعتماد على هذه المنصات باعتبارها مصدراً أساسياً لتناول الموسيقا عالمياً.
وتشير الإحصائيات إلى وجود أكثر من 300 نوع موسيقي متاح على الإنترنت، تتصدرها موسيقا البوب التي تعدّ الأكثر شعبية بفضل قدرتها على الدمج بين الإيقاعات العالمية والطابع التجاري الجذاب، ويعدّ هذا التنوع دليلاً على كيف يمكن للعولمة أن تمزج الثقافات وتذيب الحواجز بين الأذواق الموسيقية.
بدورها، تلعب أنظمة التوصية التي تعتمد على الخوارزميات دوراً بارزاً في توجيه ذائقة المستمعين وتشكيل أنماط معينة من الموسيقا التي يستمعون إليها، فهي لا تعرض فقط ما نبحث عنه، بل تقترح أيضاً ما قد نحبّه بناءً على تفضيلاتنا السابقة، وهذا ما يعيد تشكيل علاقة الفرد بالموسيقا ويُعمّق ارتباطه بأنماط محددة.
اقرأ أيضاً: من Adolescence إلى سوريا: كيف تسمّم الهواتف الذكية عقول أطفالنا؟
أما بالنسبة للفجوة الموسيقية بين الأجيال، فهي تعني أن كل جيل ينظر بعين النقد إلى الذوق الموسيقي للجيل الذي يليه، لكن لهذه الفجوة تفسيرات علمية ومنطقية مدعومة بالدراسات.
تشير دراسة إلى أن الذوق الموسيقي يبدأ بالتبلور بين سن 13 و14، ويستقر بشكل نهائي تقريباً في أوائل العشرينات، ودراسة أخرى تكمّل التي سبقتها لتقول أن الناس يتوقفون عن استكشاف موسيقا جديدة بحلول سن 33، وهذا ما يفسّر لماذا تبقى الأغاني التي نسمعها في مراهقتنا محفورة في ذاكرتنا وتظل الأفضل بنظرنا حتى بعد مرور سنوات طويلة.
من ناحية أخرى، هناك تفسير نفسي يُعرف بـ”تأثير التعرّض المجرد”، وهو أن تكرار سماعنا لأغنية ما يزيد من احتمال إعجابنا بها، لمجرد الألفة، وبما أن فترة المراهقة عادةً ما تكون مليئة بالعاطفة والانفعالات القوية، تصبح الأغاني التي نسمعها حينها مرتبطة بذكريات ومشاعر عميقة يصعب منافستها لاحقاً.
ومع تقدم العمر، يصبح اكتشاف موسيقا جديدة ليس أولوية بالنسبة لنا، نظراً لانشغالات الحياة، مثل العمل والأسرة، فضلاً عن تراجع قدرة الدماغ تدريجياً على التمييز بين الأوتار والتفاصيل الموسيقية الدقيقة، ما يجعل الأغاني الحديثة تبدو متشابهة أو غير محببة للآذان.
هكذا تتشكل الفجوة الموسيقية بين الأجيال، ومع ذلك، لا يمكن أن نعمم ونحكم على كل الأغاني الجديدة -سواء أغاني الشامي الذي بدأنا الحديث به أو غيره من الفنانين الجدد- بأنها تفتقر للقيمة أو مخصصة فقط للجيل الصاعد، فهناك فنانين شباب يبدعون أعمالاً موسيقية قيّمة تجمع بين الأصالة والتجديد وتستحق الاستماع متجاوزةً حدود الأجيال.
وبالمثل، لا يمكننا الحكم على جيل كامل بأنه “هابط”، فالحياة تتغير دوماً والأذواق تتطور يوماً بعد يوم… كل جيل يستمتع بموسيقا زمنه، والجيل الذي يسبقه ينتقد هذه الأذواق ويعتبرها “غريبة الأطوار”، وهكذا تستمر دورة التجديد والتطور التي لا تنتهي في عالم الموسيقا والحياة… في انتظار ما سينتجه الجيل القادم من موسيقا لربما ينتقده جيل الألفية بدوره، ويشعر حينها تماماً بما نشعر به اليوم.
اقرأ أيضاً: الدراما الكورية: كيف تحولت إلى ظاهرة ثقافية عالمية؟