في أعقاب عام 2011، تحولت سوريا من بلدٍ ينبض بالحياة إلى مسرحٍ لأحد أعنف النزاعات في القرن الحادي والعشرين. ومع استمرار الحرب، لم تقتصر الخسائر على الأرواح والممتلكات فحسب، بل امتدت لتُخلّف ندوباً عميقة في النفوس، حيث باتت الاضطرابات النفسية جزءاً لا يتجزأ من الواقع اليومي لملايين السوريين.
تصاعد الاضطرابات النفسية: أرقامٌ مقلقة
تشير تقارير منظمة الصحة العالمية إلى أن أكثر من نصف السكان في سوريا بحاجة إلى خدمات الصحة النفسية والدعم النفسي الاجتماعي، مع تعرض واحد من كل أربعة أطفال لخطر الإصابة باضطرابات نفسية. وتُظهر دراسة نُشرت في مجلة BMC Psychiatry أن معدلات اضطراب ما بعد الصدمة (PTSD) بين السوريين النازحين تتراوح بين 23% و43%، بينما تصل معدلات الاكتئاب إلى 30% والقلق إلى 40%.
الأطفال: الضحايا الصامتون
الأطفال السوريون هم من بين أكثر الفئات تضرراً نفسياً. إذ أظهرت دراسة أن 60.5% من الأطفال المتأثرين بالحرب في سوريا يعانون من اضطراب نفسي واحد على الأقل، مع انتشار اضطراب ما بعد الصدمة بنسبة 35.1%، والاكتئاب بنسبة 32%، والقلق بنسبة 29.5%.
كذلك، تواجه النساء السوريات تحديات نفسية مضاعفة نتيجة للعنف الجنسي، والتشريد، وفقدان الأحبة. وتشير تقارير إلى أن النساء يعانين من معدلات مرتفعة من اضطراب ما بعد الصدمة والاكتئاب، مع نقص في الخدمات الصحية النفسية المتخصصة.
تحديات النظام الصحي النفسي
قبل الحرب، كان في سوريا حوالي 70 طبيباً نفسياً فقط لخدمة 22 مليون نسمة. ومع تدمير البنية التحتية الصحية، أصبح الوصول إلى خدمات الصحة النفسية أكثر صعوبة، خاصة في المناطق الريفية والنائية.
لكن رغم التحديات، تبذل منظمات مثل منظمة الصحة العالمية (WHO) والمفوضية السامية للأمم المتحدة لشؤون اللاجئين (UNHCR) جهوداً لتقديم الدعم النفسي. ففي عام 2023، تلقى 1.3 مليون شخص خدمات الصحة النفسية والدعم النفسي الاجتماعي من قبل UNHCR وشركائها.
اقرأ أيضاً: بين الطموح والتحديات في سوريا: ما هو اقتصاد السوق الحر؟
آراء الخبراء: الحاجة إلى تدخل عاجل
يرى الباحث السوري المتخصص في علم النفس والمقيم في باريس، عبد الله موصللي، أن الصراع المسلح، والأزمات الطارئة، وتحديات المعيشة المستمرة لأكثر من عقد، ساهمت في تدهور الحالة الصحية النفسية للسوريين.
وفي حديثه لموقع الجزيرة نت، أشار موصللي إلى أن هناك عدداً كبيراً من المصابين بهذه الاضطرابات النفسية من مختلف الفئات العمرية، يفوق ما هو معلن. وأوضح أن العديد منهم يعيشون في الظل، متجنبين الكشف عن حالتهم أو السعي للعلاج، بسبب النظرة السلبية السائدة في المجتمع تجاه الأمراض النفسية والعصبية، مما يمنعهم من التصريح عن معاناتهم أو مراجعة الأطباء المختصين.
في هذا السياق، أجرت الباحثة العراقية المتخصصة في علوم النفس والأعصاب، لنا عزام علي، دراسة مسحية بالتعاون مع الجامعة الأميركية في بيروت وجامعة ويلفريد لورييه في أونتاريو بكندا، لتقييم الصحة العقلية والنفسية للاجئين السوريين في مخيمات اللجوء بلبنان.
وأشارت عزام علي إلى أن أولى مظاهر «اضطراب ما بعد الصدمة» التي لاحظتها خلال زيارتها لأحد المخيمات تمثلت في مشاعر “الغضب والحذر والخوف” التي قوبلت بها. وأضافت أن من بين العلامات الأخرى التي رصدتها كانت أعراض الاكتئاب والقلق واضطراب ما بعد الصدمة.
ختاماً، لا بد من القول إن معالجة الاضطرابات النفسية في سوريا تتطلب جهوداً متضافرة من الحكومة، والمنظمات الدولية، والمجتمع المدني. فبدون شفاء النفوس، لا يمكن تحقيق السلام الحقيقي وإعادة بناء سوريا المستقبل.