بعد أكثر من عقد على عزلة فرضتها تداعيات الحرب السورية والانقسامات الدولية، فتحت دمشق اليوم نافذة جديدة على أوروبا مع الزيارة التاريخية التي قام بها الرئيس السوري أحمد الشرع إلى العاصمة الفرنسية باريس، وهي أول زيارة له إلى أوروبا منذ توليه السلطة. فماذا جرى في الزيارة؟ وحول ماذا دار الحديث في قصر الإليزيه؟
استقبال رسمي ورسائل سياسية
وصل الشرع إلى مطار شارل ديغول الدولي صباح الأربعاء 7 أيار 2025، حيث كان في استقباله وفد رسمي فرنسي رفيع المستوى. انتقل بعدها إلى قصر الإليزيه، حيث كان الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون بانتظاره. اللقاء حمل طابعاً سياسياً بالغ الحساسية، كونه يفتح باباً لحوار طال انتظاره بين الجانبين بعد سنوات من الجمود والعداء العلني الذي طبع المواقف الأوروبية حيال دمشق، خصوصاً في ظل إرث النظام السابق وما ارتبط به من اتهامات بانتهاك حقوق الإنسان واستخدام الأسلحة الكيميائية.
عقب اجتماعهما في قصر الإليزيه، عقد الرئيسان مؤتمراً صحفياً مشتركاً حملا فيه الكثير من الرسائل الواضحة. الرئيس ماكرون استهل حديثه بالتأكيد على أن علاقة فرنسا مع سوريا علاقة تاريخية عميقة، مشدداً على أن باريس كانت ولا تزال تميز بين الشعب السوري ونظام الأسد السابق الذي أسقطه السوريون بثورتهم. وأشار ماكرون إلى التحديات الأمنية والسياسية التي لا تزال تواجه سوريا، مؤكداً أن فرنسا ترى في سقوط الأسد فرصة لبناء سوريا جديدة على أسس العدالة والمواطنة والمصالحة الوطنية.
حديث عن المحاسبة والتحديات التعاون الأمني
أبرز ما شدد عليه ماكرون كان ضرورة محاسبة المتورطين في الجرائم المرتكبة خلال سنوات الحرب، وخصوصاً في قضايا السلاح الكيميائي والمجازر الطائفية التي شهدتها البلاد. كما دعا إلى احترام حقوق جميع مكونات المجتمع السوري دون استثناء، مع تأكيده أن فرنسا ستواصل دعمها لسوريا في مسارها نحو استعادة سيادتها وإعادة بناء الدولة.
ومن أبرز النقاط التي طُرحت خلال المؤتمر التعاون الأمني بين البلدين، خصوصاً في ظل استمرار خطر الإرهاب، الذي لا يزال ماثلاً رغم الهزائم التي مُني بها تنظيم داعش. أكد ماكرون أن فرنسا تعتبر قوات سوريا الديمقراطية شريكاً أساسياً في مكافحة داعش، مشيراً إلى اتفاق الشراكة الذي أبرم مؤخراً بين مكونات الشعب السوري.
كما أشار الرئيس الفرنسي إلى أن فرنسا لن تتهاون في مواجهة النفوذ الإيراني وأذرعه في سوريا ولبنان، مؤكداً أن التعاون الأمني مع دمشق سيتوسع ليشمل مكافحة تهريب المخدرات، خاصة الكبتاغون، الذي كان يشكل شرياناً مالياً أساسياً للنظام السابق.
الشرع: مرحلة جديدة من الشفافية والمصالحة
بدا الرئيس الانتقالي السوري أحمد الشرع حريصاً في كلمته على تقديم صورة جديدة لسوريا ما بعد الحرب. وتوجه بالشكر إلى الشعب الفرنسي على استقبال اللاجئين السوريين خلال سنوات الحرب، مشدداً على أن سوريا اليوم تفتح صفحة جديدة قائمة على إعادة بناء الدولة ومؤسساتها، واستعادة الثقة بين السوريين أنفسهم.
الشرع تحدث بإسهاب عن التحديات التي تواجه بلاده، بدءاً من الإرهاب وصولاً إلى إعادة الإعمار. وأشار إلى أن حكومته تسعى جاهدة لترسيخ مبدأ العدالة، معلناً عن تشكيل لجان تحقيق لمحاسبة كل من ارتكب جرائم بحق المدنيين، سواء كانوا من «فلول النظام السابق» أو من جماعات أخرى حسب تعبيره.
اقرأ أيضاً: لأول مرة: الشرع منفتح على قنوات تواصل مع «إسرائيل» ويكشف الموقف الروسي من الأسد!
إعادة الإعمار: أولوية اقتصادية وأخلاقية
أحد المحاور الأساسية في حديث الشرع تمثل في ملف إعادة الإعمار. أكد أن سوريا ورثت بنية تحتية مدمرة نتيجة الحرب، وأن الجهود تتركز حالياً على تقييم الاحتياجات الحقيقية للبلاد في جميع المجالات. وأشار إلى أن إعادة الإعمار ليست مجرد بناء حجري، بل إعادة بناء للثقة بين الدولة والمواطنين، وضمان عدم العودة إلى حقبة الاستبداد والخوف.
كما ناقش الشرع مع ماكرون دور فرنسا في دعم جهود إعادة الإعمار، معرباً عن أمله في أن تساهم باريس في هذه العملية، سواء عبر الدعم المالي أو من خلال المساهمة الفنية والتقنية.
ومن القضايا الشائكة التي طُرحت خلال المؤتمر قضية المقاتلين الأجانب من عناصر داعش المحتجزين في شمال شرق سوريا. أكد ماكرون أن هذا الملف سيكون ضمن الأولويات، مشيراً إلى أن استقرار سوريا مشروط بمعالجة هذه القضية بالشراكة مع الدول الأوروبية.
أما بخصوص العقوبات الأوروبية المفروضة على سوريا، فقد أشار ماكرون إلى أن هذه العقوبات فُرضت على النظام السابق، وأن الوقت قد حان لمراجعتها، خاصة بعد سقوط الأسد. وفي رده، أكد الشرع أن بلاده تأمل في رفع هذه العقوبات بشكل كامل، معتبراً أن استمرارها يضر بالشعب السوري ولا يخدم أي هدف سياسي بعد التغيير الذي شهدته البلاد.
ولم تغب القضايا الإقليمية عن جدول النقاشات. الشرع أكد أن حكومته تسعى لإقامة علاقات طيبة مع جميع دول الجوار، بما فيها «إسرائيل»، مشيراً إلى أن هناك مفاوضات غير مباشرة جارية لاحتواء التصعيد المتكرر على الحدود. كما تم بحث تعزيز التعاون الأمني مع لبنان لمنع عودة سوريا إلى دورها السابق كحلقة وصل بين إيران وحزب الله.
تحليلات وآراء حول زيارة أحمد الشرع إلى فرنسا
تعددت تحليلات الخبراء والمفكرين السوريين والفرنسيين حول زيارة الرئيس السوري أحمد الشرع إلى باريس ولقائه بالرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون، حيث اعتبر فضل عبد الغني، مدير الشبكة السورية لحقوق الإنسان، أن اختيار فرنسا كأول دولة أوروبية يزورها الشرع يعكس أهمية العلاقات التاريخية بين البلدين، مشيراً إلى أن هذه الزيارة قد تفتح الباب أمام دول أوروبية أخرى للتواصل مع الحكومة السورية الجديدة مما يعزز شرعيتها الدولية. أما الباحث السياسي عمر كوش فرأى أن الزيارة تمثل فرصة للشرع لعرض رؤيته لمستقبل سوريا في ظل التحديات الأمنية والاقتصادية، مؤكداً أن فرنسا تسعى من خلالها إلى استعادة دورها في الملف السوري بعد غياب الدور الأمريكي.
ومن الجانب الفرنسي، أوضح أوليفييه روا Olivier Roy، خبير شؤون الإسلام السياسي، أن فرنسا لا يمكنها تجاهل السلطة الواقعية في دمشق، مشدداً على أن التعامل مع الشرع يجب أن يُفهم في إطار موازين القوى وليس كتزكية شخصية. فيما أشار فردريك دو لا موتر Frédéric Delaître، المحلل في مركز مونتين Montaigne للسياسات العامة، إلى أن استقبال الشرع قد يُستغل داخلياً من قبل المعارضة اليمينية، لكنه أكد أن فرنسا تسعى لتوجيه المرحلة الانتقالية السورية بدل تركها لموسكو وطهران.
من جهتها، وصفت كلير دوفيلي Claire de Ville، الباحثة في معهد العلاقات الدولية الفرنسي (IFRI)، الزيارة بأنها مخاطرة سياسية مدروسة من قِبل ماكرون تهدف إلى إعادة تموضع باريس كفاعل محوري في الملف السوري، لكنها حذرت في الوقت نفسه من أن أي تهاون مع ماضي الشرع قد يقوّض مصداقية فرنسا في المحافل الدولية.
وفي الختام، يمكن القول إن الزيارة بدت بمثابة إعلان نوايا لرسم علاقة استراتيجية جديدة بين سوريا وفرنسا، قائمة على التعاون السياسي والأمني والاقتصادي. إذ ختم ماكرون المؤتمر بتأكيد التزام بلاده بدعم الشعب السوري في مسيرته نحو الاستقرار والازدهار، مشيراً إلى أن استقرار سوريا هو مصلحة فرنسية وأوروبية بامتياز.
ورغم الأجواء الإيجابية التي سادت اللقاء، فإن الطريق أمام دمشق وباريس لا يزال محفوفاً بالتحديات… هل ستكون هذه الزيارة بالفعل بداية جديدة لعلاقة متوازنة بين سوريا وأوروبا، أم أنها مجرد محطة بروتوكولية في رحلة طويلة نحو التعافي؟