لطالما كانت الكهرباء في سوريا مرآة تعكس عمق أزمات البلاد وتعقيداتها. منذ عقود، يعيش السوريون معاناة شبه يومية مع انقطاع التيار الكهربائي، ومع مرور الزمن وتفاقم الأزمة السياسية والاقتصادية، لم يعد انقطاع الكهرباء مجرد عارض عابر، بل أصبح جزءاً من تفاصيل الحياة اليومية.. وبينما يبدو الحل بعيد المنال، جاءت الأخبار الأخيرة لتفتح نافذة أمل جديدة، عبر توقيع اتفاقيات لتوريد الكهرباء والغاز من تركيا. فهل ستكون هذه الخطوات بداية الانفراج؟ أم مجرد مسكنات مؤقتة؟
منذ سنوات طويلة، لم تحقق سوريا الاكتفاء الذاتي في إنتاج الكهرباء. حتى قبل اندلاع الحرب، كان الإنتاج المحلي، الذي وصل عام 2010 إلى نحو 6500 ميغاواط، أقل بكثير من الحاجة الفعلية المقدرة بـ 8600 ميغاواط. واعتمدت البلاد على استيراد الكهرباء لتغطية هذا العجز، خصوصاً من دول الجوار. ومع اندلاع الحرب، تفاقمت الأزمة مع انهيار البنية التحتية وانخفاض إنتاج النفط والغاز.
اليوم، يعتمد قطاع الكهرباء السوري بشكل شبه كامل على محطات الطاقة الحرارية، التي تؤمّن أكثر من 90 بالمئة من إجمالي الإنتاج المحلي، معتمدة على الفيول والغاز الطبيعي. لكن هذه المصادر، التي كانت في يوم ما وفيرة، أصبحت نادرة بسبب تراجع الإنتاج المحلي والتحديات اللوجستية والاقتصادية.
الاتفاق الجديد: من تركيا إلى سوريا
أعلنت الحكومة السورية الحالية عن عزمها توقيع اتفاق مع تركيا لتوريد الكهرباء عبر خط جديد بجهد 400 كيلو فولت يمتد من الأراضي التركية إلى سوريا. وهذا الحديث يتزامن مع جهود أخرى لتحسين وضع الطاقة، أبرزها العمل على إعادة تأهيل خط أنابيب الغاز الطبيعي الواصل بين كيليس التركية ومدينة حلب، والذي من المتوقع أن يمد محطات الطاقة في سوريا بنحو 6 ملايين متر مكعب من الغاز يومياً.
وفي حديثه حول ذلك، أشار وزير الطاقة السوري، محمد البشير، إلى أن هذه الخطوة ستُحدث تحولاً كبيراً في واقع الطاقة السوري، خصوصاً في الشمال، حيث تستعد البلاد أيضاً لإنشاء خط نقل كهرباء جديد بين الريحانية التركية ومنطقة حارم السورية لتوريد نحو 80 ميغاواط من الكهرباء.
واقع البنية التحتية: حاجة إلى إعادة بناء شاملة
تشير التقديرات إلى أن إعادة تأهيل قطاع الكهرباء في سوريا يحتاج إلى استثمارات هائلة تصل إلى 40 مليار دولار، وتشمل إصلاح المحولات وخطوط التوتر العالي والمحطات الحرارية التي تضررت بفعل الحرب والعقوبات الغربية. ولا يقتصر الأمر على إعادة الإعمار فقط، بل يتطلب تحديثاً كاملاً للبنية التحتية لمواكبة الطلب المتزايد.
مدينة حلب وحدها تحتاج إلى ما لا يقل عن 2000 ميغاواط من الكهرباء، لكن تشغيل هذا الحجم من الطاقة يحتاج إلى ما لا يقل عن ستة أشهر من العمل المتواصل لإعادة تأهيل الشبكات والخطوط.
اقرأ أيضاً: سرقة الكابلات الكهربائية: تحدٍ أمني واقتصادي يفاقم أزمة الكهرباء في سوريا
ولم تقتصر الاتفاقات الأخيرة على الكهرباء فقط، بل امتدت إلى مشاريع استثمارية في قطاع النفط والغاز، بما في ذلك خطط للتنقيب عن الغاز الطبيعي في البحر. وأشار وزير الطاقة السوري إلى وجود خطط لتطوير قطاع التعدين أيضاً، مع التركيز على معادن استراتيجية مثل الفوسفات والليثيوم، مما يعزز الآمال في تحسين موارد البلاد الطبيعية.
الحلول الإسعافية: هل يكفي هذا وحده؟
في ظل غياب التمويل الكافي والقيود المفروضة على سوريا، وجدت الحكومة نفسها مضطرة لاعتماد ما يسمى بـ«الحلول الإسعافية» عبر توقيع اتفاقيات استيراد الطاقة من دول الجوار. تركيا، التي تصدر الكهرباء والوقود منذ عام 2017 إلى مناطق شمال سوريا، لعبت دوراً رئيسياً في إبقاء جزء من البلاد متصلاً بشبكة الطاقة. كما ساهمت منح مقدمة من دول حليفة، مثل منحة الغاز الطبيعي من قطر، في سد جزء من الفجوة.
ورغم أهمية الاتفاقات الموقعة، تبقى الأسئلة الكبرى مطروحة: هل ستكون هذه الحلول كافية لإخراج سوريا من أزمتها الطاقية المستعصية؟ هل تستطيع البلاد الاعتماد على استيراد الطاقة وحده دون استعادة قدراتها الإنتاجية الذاتية؟ وهل سيتحول الاتفاق مع تركيا من مجرد توريد للكهرباء إلى تعاون أوسع في مجالات أخرى؟
الإجابة ليست سهلة بطبيعة الحال، لكن الواضح أن مستقبل الطاقة في سوريا لن يُبنى بين ليلة وضحاها. بل هو مشروع طويل الأمد، يتطلب جهوداً متكاملة من الإصلاح الداخلي والتعاون الخارجي، مع ضرورة تجاوز التحديات السياسية والاقتصادية…