منذ قرون، كانت منطقة الشرق الأوسط ساحةً للمشاريع الكبرى التي تُحاك في الغرف المغلقة وتُرسم على طاولات المفاوضات، بينما يدفع الناس في الميدان الثمن. من بين هذه المشاريع، برز حديث أخيراً في الأوساط «الإسرائيلية» والإقليمية عن مشروع يُسمى «ممر داؤود» – وهو اسم يبدو للوهلة الأولى مأخوذاً من صفحات التوراة، لكنه في الحقيقة يحمل بين طياته خطراً جيوسياسياً عميقاً قد يُعيد تشكيل خريطة سوريا والشرق الأوسط بأكمله. فما قصة هذا المشروع؟ وما الذي يُقلق المحللين والدول الإقليمية بشأنه؟
ما هو «ممر داؤود»؟
يعدّ «ممر داؤود» مشروعاً «إسرائيلياً» استراتيجياً يُقال إنه يهدف إلى إنشاء خط بري يمتد من الجولان السوري المحتل، مروراً بجنوب سوريا وشمالها، حتى يصل إلى إقليم كردستان في العراق. وهذا الخط، وفقاً للخبراء، ليس مجرد طريق على الأرض، بل هو شبكة نفوذ وسيطرة تربط «إسرائيل» بأسواق النفط والغاز العالمية، وتُعيد رسم خرائط النفوذ في المنطقة بما يتجاوز حدود الدول التقليدية.
عاد الحديث عن هذا الممر إلى الواجهة خصوصاً بعد سقوط سلطة بشار الأسد في ديسمبر 2024، حين رُصدت تحركات عسكرية إسرائيلية في مناطق مثل القنيطرة ودرعا وحتى قرب العاصمة دمشق، وسط أنباء عن تدمير البنية العسكرية للنظام السابق وتعزيز الوجود الإسرائيلي في الجولان.
الأهداف الخفية وراء المشروع
بحسب المحلل السياسي السوري آلان بيري، لا يقتصر الهدف على التوسع الجغرافي فقط، بل يمتد ليشمل إضعاف النفوذ الإيراني والتركي في المنطقة. إذ يسعى المشروع لفك ارتباط كردستان العراق بتركيا اقتصادياً، وربط النفط والغاز من شمال سوريا والعراق مباشرة بالأسواق العالمية دون المرور عبر أنقرة أو طهران.
ومن جانبه، يرى المحلل العراقي عبد الله شلش، أن المشروع يُنهي عزلة «إسرائيل» الجغرافية ويفتح أمامها بوابات للتجارة الإقليمية، مع سيطرة أكبر على الموارد الطبيعية. وكل هذا، كما يُعتقد، يجري بدعم أميركي مباشر، إذ ترى واشنطن في المشروع وسيلة لتعزيز حليفتها الاستراتيجية في المنطقة.
البُعد الديني: حين تتحول الأسطورة إلى سياسة
وفقاً للدكتور عبد المنعم حلاوة، المتخصص في شؤون الشرق الأوسط، فإن مشروع «ممر داؤود» لا ينفصل عن الخلفية اللاهوتية لبعض السياسيين «الإسرائيليين» الذين يرون أن دولتهم تُعاني لعنة تاريخية بعدم استمرار أي كيان يهودي لأكثر من 80 عاماً. من هنا، يُعتبر المشروع وسيلة لضمان ديمومة الدولة العبرية وتوسيع نفوذها في عمق المنطقة.
ويُضيف «حلاوة» أن التحركات العسكرية الأخيرة في غزة ولبنان وسوريا والعراق تأتي في إطار التمهيد لهذا المشروع الكبير، الذي يستفيد من الفوضى الإقليمية وانشغال القوى الكبرى بملفات أخرى.
الانعكاسات الإقليمية: زلزال جيوسياسي
إذا ما تم تنفيذ «ممر داؤود»، فإن انعكاساته لن تقتصر على سوريا والعراق وحدهما، بل ستطال لبنان ومصر أيضاً. حيث سيمنح المشروع إسرائيل امتداداً يصلها مباشرة بالمتوسط، وبخصوص الجانب المصري، يُحذر «حلاوة» من أن إنشاء ممر تجاري يربط الخليج بالمتوسط دون المرور بقناة السويس قد يُغير معادلات التجارة في المنطقة، ويُشكل تهديداً استراتيجياً للقاهرة، التي تعتمد اقتصادياً على عائدات القناة.
وفي الداخل السوري، يُراهن المشروع على كسب ولاءات المكونات المحلية بعيداً عن سلطة المركز، مثل العشائر البدوية، ضمن ما يُعرف بـ«استراتيجية الأطراف».
هل يمكن تحقيق هذا المشروع فعلاً؟
رغم ما يبدو من طموح بعيد، يرى بعض الخبراء أن المشروع ليس مستحيلاً. إذ يلفت الباحث آلان بيري إلى أن مشاريع مشابهة بدت خيالية في بدايتها، مثل تحويل غزة إلى منطقة سياحية أو إقامة مناطق عازلة في الجنوب السوري، لكنها سرعان ما تحولت إلى وقائع سياسية على حد قوله، ومن هنا يرجح بيري إمكانية التحقيق.
لكن يرى عدد من الخبراء والمحللين أن مشروع «ممر داؤود» يواجه تحديات كبيرة تجعل تنفيذه على أرض الواقع أمراً غير مرجح في الوقت الراهن. ومنهم على سبيل المثال السياسي السوري هشام مسالمة الذي يرى أن «ممر داؤود» هو بالأساس مشروع إعلامي يُستخدم كأداة للضغط السياسي والدعائي، أكثر من كونه خطة قابلة للتنفيذ. ويؤكد أن «إسرائيل»، رغم طموحاتها التوسعية، تدرك أن تنفيذ مثل هذا المشروع يصطدم بعقبات جغرافية وسياسية وأمنية معقدة، تجعل من الصعب تحقيقه في الظروف الحالية، وذلك وفق تعبيره لتلفزيون سوريا اليوم.
اقرأ أيضاً: ما بين اتفاق السويداء وغارات الكيان.. ما الذي تريده «إسرائيل» بالضبط؟!
من جانبه، يشير الباحث في الشؤون الإسرائيلية مصطفى صوالحة إلى أن «ممر داؤود» يظل أقرب إلى فرضية استراتيجية تُطرح في سياقات معينة، لكنه يفتقر إلى المقومات الواقعية التي تسمح بتحويله إلى خطة تنفيذية ناجزة. ويضيف أن المشروع يواجه تعقيدات جغرافية وسياسية تجعل تنفيذه صعباً، خاصة في ظل التوازنات الإقليمية والدولية الراهنة.
أما الدكتور حلاوة، فيعتبر أن مصير «ممر داؤود» مرتبط بتفاهمات كبرى بين واشنطن وطهران. فإذا حصلت إيران على ضمانات كافية ببقاء النظام الحاكم في دمشق وعدم تهديد أمنها، قد تغض النظر عن المشروع، ولو مرحلياً، حسب تعبيره.
وفي الختام، يبقى مشروع «ممر داؤود» حتى اللحظة في إطار الخطط غير الرسمية والتكهنات والتحليلات، لكنه نموذجاً واضحاً للطموحات «الإسرائيلية» في الشرق الأوسط. فهو مشروع لا يُعيد رسم خرائط فقط، بل يُعيد رسم موازين القوى، ويطرح أسئلة صعبة على كل من يتابع مشهد ما بعد الحرب في سوريا: إلى أين تتجه المنطقة؟ ومن سيملك مفاتيح السيطرة فيها؟ تلك أسئلة ستجيب عنها الأيام…