في ردهات السياسة السورية المتشابكة، لا تزال الملفات المعقدة في الشمال الشرقي تفرض إيقاعها الثقيل، وتُعيد رسم المشهد بين الأطراف الفاعلة في شمال شرقي البلاد والعاصمة دمشق. زيارة جديدة، ولكن بأوراق قديمة متجددة، تكشف عن مساعٍ لإعادة ضبط العلاقة بين الإدارة الذاتية والحكومة المركزية، وسط تساؤلات لا تنتهي حول مصير الثروات، ومؤسسات الحكم، والحقوق القومية.. في هذا المقال نكشف تفاصيل الزيارة لوفد من الإدارة الذاتية إلى دمشق، وأبرز البنود التي ستُطرح على طاولة النقاش، إلى جانب خلفيات الاتفاق السياسي الموقع بين الطرفين، والملفات المؤجلة التي لم تُفتح بعد، بانتظار وفد جديد ومفاوضات أكثر تعقيداً.
وفد يحمل الملفات المعقدة في الشمال الشرقي
كشف مصدر مطّلع لموقع «تلفزيون سوريا» أن وفداً مفوّضاً من قبل الإدارة الذاتية لشمال وشرق سوريا، غادر متوجهاً إلى العاصمة دمشق لمناقشة جملة من الملفات الشائكة بين الطرفين، مشيراً إلى أن هذا التحرك يأتي في إطار متابعة الاتفاق السياسي الذي تم توقيعه بين الرئيس السوري أحمد الشرع، والقائد العام لـ«قسد» مظلوم عبدي، في العاشر من آذار 2025.
وفقاً للمصدر، فإن الوفد سيلتقي بمسؤولين في الحكومة السورية لبحث خطوات تنفيذ الاتفاق الذي ينصّ على دمج المؤسسات المدنية والعسكرية التابعة للإدارة ضمن هيكل الدولة السورية، إضافة إلى ملفات التعليم والثروات وتقسيمات الإدارة المحلية.
وحدّد المصدر موعد زيارة الوفد يوم أمس الثلاثاء 27 أيار 2025 إلى دمشق، بحسب التنسيق اللوجستي مع قوات التحالف الدولي، إلا أن المصدر لم يستبعد حدوث تأجيل فني قد يؤخر الزيارة ليوم أو اثنين.
تنوع سياسي وتمثيل مؤسساتي
يتألف الوفد من شخصيات بارزة تمثل طيفاً واسعاً من الأحزاب والمؤسسات داخل الإدارة الذاتية، من بينهم: فوزة يوسف، عضوة الهيئة الرئاسية لحزب الاتحاد الديمقراطي (PYD) – عبد حامد المهباش، رئيس حزب سوريا المستقبل – أحمد يوسف، الرئيس المشترك لهيئة المالية في الإدارة الذاتية – سنحريب برصوم، رئيس حزب الاتحاد السرياني – سوزدار حاجي، عضوة القيادة العامة لوحدات حماية المرأة، إلى جانب مريم إبراهيم وياسر سليمان كناطقين رسميين باسم الوفد.
ويعكس وجود هذا التنوع في الوفد حرص الإدارة الذاتية على توحيد رؤيتها المؤسساتية في المباحثات مع دمشق، رغم أن الملف القومي الكردي ما زال خارج نطاق هذا الوفد.
لا تفويض سياسي… ووفد جديد في الطريق
لكن رغم تنوع وفد الإدارة الذاتية وطبيعته فإن نقاش حقوق الأكراد السوريين كقومية لن يكون حاضراً على طاولة البحث، فقد أكد مصدر كردي مسؤول أن الوفد الحالي غير مخوّل ببحث الملفات المتعلقة بالحقوق القومية والسياسية للشعب الكردي، مشيراً إلى أنه سيتم لاحقاً تشكيل وفد متخصص لطرح هذه القضايا على طاولة التفاوض مع الحكومة السورية.
ويستند هذا الوفد المرتقب إلى ما بات يُعرف بـ«وثيقة الرؤية السياسية المشتركة» التي أقرتها الأحزاب الكردية خلال مؤتمر القامشلي يوم 26 نيسان 2025، والتي تدعو إلى بناء نظام ديمقراطي لا مركزي يضمن حقوق الكرد دستورياً، ويكرّس مشاركة المرأة في الحياة السياسية والعسكرية.
اللامركزية… خط أحمر لا مساومة عليه!
حول ما خلص إليه «الكونفرانس» الكردي، شدد القيادي الكردي البارز بدران جيا كورد في حديث له لوكالة «فرانس برس»، على أن مطلب اللامركزية في إدارة سوريا هو من الثوابت التي لا يمكن التنازل عنها، معتبراً أن النموذج المركزي التقليدي أثبت فشله وتجاهله لتنوع المناطق والمجتمعات السورية.
وأوضح أن الطرح اللامركزي سيكون ضمن الملفات الأساسية على طاولة التفاوض، مشيراً إلى أن لجنة ممثلة للأحزاب الكردية تستعد للتوجه قريباً إلى دمشق لبحث الحقوق الدستورية للأكراد، رغم عدم تحديد موعد دقيق لذلك.
فيما أكد جيا كورد أن الحوار بين الإدارة الذاتية والحكومة السورية مستمر، لكنه يتطلب «بناء جسور ثقة» وتخليص العملية السياسية من الذهنية المركزية التي تؤخر التقدم.
دمج المؤسسات وضمان الحقوق
بناءً على هذا الكلام، واستناداً إلى الاتفاق السياسي الموقع في العاشر من آذار 2025 بين الرئيس الانتقالي أحمد الشرع والقائد مظلوم عبدي، فإن الملفات التي ستُطرح في المباحثات بين وفدي الشمال الشرقي والحكومة السورية هي:
- دمج المؤسسات: إدماج مؤسسات الإدارة الذاتية المدنية والعسكرية، بما في ذلك وحدات الحماية والمعابر الحدودية والمطارات وحقول النفط والغاز، ضمن هيكل الدولة السورية.
- مستقبل مؤسسات الإدارة الذاتية: مناقشة مصير المؤسسات الأمنية والمدنية الحالية في مناطق الرقة ودير الزور والحسكة، وآلية بقائها أو تفكيكها ضمن النظام المركزي أو اللامركزي.
- هيكلية الحكم المحلي: البحث في شكل التقسيمات الإدارية للإدارة الذاتية، وعلاقتها بالمركز في دمشق، مع التركيز على إمكانية اعتماد نموذج لا مركزي موسع.
- ملف التعليم: التفاوض بشأن مناهج التعليم المعتمدة حالياً في مناطق الإدارة الذاتية، ومدى إمكانية توحيدها أو دمجها ضمن المنظومة التعليمية الوطنية.
- الثروات الوطنية: معالجة مسألة السيطرة والإشراف على الموارد الطبيعية، خاصة النفط والغاز، وتقاسم العائدات بين المركز والمناطق المنتجة.
- الحقوق الدستورية للكرد: رغم أن هذا الملف ليس ضمن صلاحيات الوفد الحالي، إلا أنه يُعتبر من أعقد القضايا، ويجري التحضير لوفد مستقل لمناقشته، استناداً إلى «وثيقة الرؤية السياسية المشتركة».
فهذه القضايا، بتشعباتها السياسية والقانونية والإدارية، تشكل جوهر التعقيد في العلاقة بين الطرفين، وتختبر مدى جدية السلطات السورية الجديدة في قبول شراكة فعلية، تتجاوز الاعتراف الرمزي أو الشكلي بالمكونات المختلفة، لأن مسألة تحقيق تقدم في هذه الملفات والتطبيق الفعلي مرهون بحجم التنازلات المتبادلة بين الطرفين.
حوار الضرورة لا الرفاهية
ختاماً، تدل هذه الزيارات الجديدة إلى دمشق على أن الحوار بين الإدارة الذاتية والحكومة المركزية لم يعد خياراً مؤجلاً، بل ضرورة حتمية أمام تعقيدات الواقع الميداني والسياسي. وأن نجاح هذا المسار يتطلب أكثر من مجرد لقاءات سياسية، بل يحتاج اعتراف متبادل، وتنازلات واقعية، وفهم عميق لمعادلة: لا وحدة وطنية بلا عدالة، ولا عدالة بلا شراكة.
اقرأ أيضاً: هل خطا الاتفاق مع «قسد» خطوة إلى الأمام؟!