يقولون “كاد المعلم أن يكون رسولا” فما بالك لو قلنا لك بأن هذا المعلم بقي في أصعب الظروف وأحلكها، علّم الأجيال فوق الحطام وحولها لآمال تنسج مستقبلهم وأحلامهم. نعم هذا حال المعلمين في المناطق التي كانت تدعى “الشمال المحرر”. لكن عندما تصبح لقمة العيش صعبة والحقوق يتم تسوّلها، تصبح اللوحات التي تخط المطالب المحقة أعلى من الصرخات، وأقوى من أي هتاف، لذا لجاء المعلمون إلى الحكومة لسماع أصواتهم.
فقد قام المعلمون في شمال غرب سوريا برفع مجموعة مطالب للحكومة السورية بعد أن ضاقت بهم سبل الحياة، ومن بينها المطالبة بإنصافهم في إعطائهم رواتب صيفية مجزية، إذ يعامل المعلمون في شمال غرب سوريا كمعلمين موسميين تُنهى رواتبهم مع انتهاء العام الدراسي. كما طالب هؤلاء بإصدار قرار تثبيتهم بعد أن قضوا سنوات طويلة من عمرهم في ظل الحرب والقصف والدمار يقدمون علمهم لأبناء تلك المناطق وأحياناً بدون أجر.
طالب المعلمون أيضاً بإلحاقهم بأنظمة الضمان والاستقرار الوظيفي إسوة ببقية القطاعات التي كانت تعمل في مناطقهم، بالإضافة إلى ضم سنوات الخدمة السابقة لهم في الشمال بسجلهم الوظيفي، واعتبار السنوات التي عملوا بها كمتطوعين ضمن سنوات خدمتهم.
آلاف المعلمين وضعوا هذه المطالب بين أيدي الحكومة السورية التي قاسمتهم الصعاب نفسها سابقاً، آملين أن تتحسن أحوالهم ويُعترف بتضحياتهم التي قدموها خلال أربعة عشر عاماً، وإعادة كرامة المعلم المهدورة ومكانته المرموقة باعتبار أننا في مرحلة بناء المجتمع، واتخاذ الدول المتقدمة قدوة في اعتبار المعلم أساس المجتمع وعماده، وبكرامته تبنى الأجيال الواعية.
اعتبر المعلمون في إدلب وريفي حلب الشمالي والشرقي أن بقاء النظام التعليمي الذي كان سارياً في مناطقهم “ظلماً لمسيرتهم التعليمية” ومنها غياب الرواتب الصيفية، عدا عن استثنائهم من منحة عيد الفطر، إلا أنهم احتجوا على هذا التصرف لتقوم الحكومة بعدها بالاستجابة لهم.
امتداداً لما سبق يمكننا طرح سؤال آخر ما هو حال المعلمين في سوريا
المعلمون في سوريا
للوهلة الأولى تظن أن الرواتب هي مشكلة المعلمين الوحيدة أو لها الأولوية، إلا أن هناك معاناة جمة تواجه المعلمين، لكن لنبدأها مع الرواتب التي لا تتجاوز 350 أو 400 ألف ليرة سورية في أحسن الأحوال. هل هذه الرواتب المخزية قادرة على إعالة عائلة؟ بالطبع لا، فما كان من المعلمين إلا التوجه نحو القطاع الخاص عبر المدارس والمعاهد الخاصة التي وفرت لهم راتب نوعاً ما جيد، قارب المليوني ليرة، عدا عن الدروس الخاصة، وبذلك وفرت هذه المؤسسات التعليمية الخاصة فرصاً للمعلمين لصون كرامتهم التي أهدرتها المؤسسات الحكومية.
طبعاً ما سبق يشمل المعلمين الرافضين لفكرة مغادرة البلاد، أو من لا تسمح ظروفهم المادية أو العائلية بالهجرة، أما من تتوفر لديه الإمكانيات المادية المطلوبة اتخذ من الهجرة والسفر سبيلاً للخلاص من الواقع المؤلم، إذ بلغت خسارة المنظومة التعليمية لكوادرها نحو أكثر من 100 ألف معلم معظمهم سافر خارج البلاد، والباقي توزعوا بين المعاهد والمدارس الخاصة والدروس الخصوصية التي دفعت ببعض المعلمين إلى الاستقالة من الوظيفة الحكومية والتفرغ لها. بينما هناك من توجه نحو مهن أُخرى لا علاقة لها بالتدريس.
هذا الواقع الصعب يؤثر على السوية المهنية للمعلمين، وعلى أدائهم في الصف التعليمي الذي أصبح مكتظ بالطلاب نتيجة النزوح أو تدمير مدارسهم، فقد وصل عدد الطلاب في بعض الصفوف إلى 50 طالب، مما يصعّب المهمة على المعلم في ضبطتهم وتوجيه انتباههم نحو المعلومات.
بحسب تقارير اليونيسف لعام 2018، أدت الحرب إلى تضرر وتدمير نحو 7 آلاف مدرسة وخروجها عن الخدمة، أي ما يعادل ثلث مدارس البلاد التي يقدر عددها الإجمالي بنحو 24 ألف مدرسة، فيما أدى الزلزال الذي ضرب شمال غرب سوريا إلى تضرر نحو 248 مدرسة، بشكل جزئي أو كلي، توزعت في محافظات حلب اللاذقية طرطوس، حماة وإدلب.
والآن وبعد سقوط النظام السابق ظهرت عراقيل أُخرى أمام المعلمين دفعتهم نحو التظاهر والاحتجاج على قرارات وزارة التربية التي تفيد بإنهاء تحديد مراكز العمل.
وشرحاً لهذا، ففي عهد النظام والسنوات التي سبقت اندلاع الثورة السورية، كان يحق للمعلمين المعينين في محافظات غير محافظاتهم الدوام في محافظاتهم بصورة غير رسمية أو ضمن فكرة الانتداب، وبهذا يوفرون مشاق السفر نحو مدن غير مدنهم، لكن قرار وزير التربية في حكومة تصريف الأعمال بإنهاء العمل بهذا القانون جاء كضربة قاضية لمسيرتهم التعليمية، إذ قالت الوزارة أن من لا يلتزم بالقرار الصادر سيُعتبر مستقيل أو مفصول.
لكن الوزارة استجابت لمطالب المدرسين، بشرط وحيد هو إعادة تقديم طلب رسمي بالنقل من المراكز الأولى التي عينوا بها. لكن هذه الخضات الوزارية والقرارات العشوائية والمستقبل المجهول تضع المعلم في موقف الانتظار المقلق لما ستؤول إليه حاله.
اقرأ أيضاً: هل سيفقد طلاب الشهادة الإعدادية والثانوية في شمال شرق سوريا عامهم الدراسي؟
سبل الحل والتحسين
لم تكن الحلول بعيدة أو غير معروفة لكن المشكلة تكمن في تطبيقها، فنحن نعلم أن زيادة الرواتب والأجور للمعلمين تعد من أهم سبل حل المشكلة، وقد قام وزير التربية والتعليم “محمد” تركو” برفع أجور العاملين في العملية الامتحانية لخمسة أضعاف بالتنسيق مع وزارة المالية، عدا عن اجتماعه مع الرئيس الشرع لبحث سبل تغيير المناهج وتعديلها، وتحديث سبل التعليم واتباع استراتيجيات شاملة لتطوير التعليم.
ولا يجب أن نغفل الجانب التدريبي للكوادر التعليمية من المعلمين والمدراء وغيرهم، فالفجوة بين المناهج الحديثة وأساليبها وقدرات المعلمين والواقع التعليمي ككل كبيرة للغاية، لذا الاستعانة بالخبرات السورية وغير السورية تساعد على سد هذه الفجوة وتقدم معلمين مميزين.
في النهاية، بما أننا في مرحلة بناء واقع تعليمي جديد نستطيع الاستفادة من الأيادي الممدودة لنا من كافة دول العالم في بناء منظومة تعليمية جديرة بالاحترام، ورفع كفاءة المعلمين وإعادة كرامتهم، بالتزامن مع النهوض بالبنية التحتية التعليمية المدمرة بما يتناسب مع التطور الحاصل في العالم.
اقرأ أيضاً: بعد تأهيل 70 مدرسة.. وزارة التربية تطلق خطة شاملة لإعادة إعمار التعليم في سوريا