في قلب المشرق القديم، حيث شكّلت الأنهار شرايين الحياة منذ آلاف السنين، يقف نهر الفرات اليوم شاهداً على واحدة من أخطر الأزمات البيئية والإنسانية في العصر الحديث. لم يعد الأمر يتعلق بمجرد انخفاض موسمي في المياه، بل أصبح مأساة متفاقمة تهدد ملايين البشر، الزراعة، الكهرباء، وحتى التنوع البيئي في شمال شرقي سوريا. وفي كل موجة جفاف جديدة، يتردد صدى سؤال مُر: من المسؤول عن عطش هذه الأرض؟ وهل نحن على أعتاب كارثة لا رجعة عنها؟
انهيار منسوب نهر الفرات: أرقام تدق ناقوس الخطر
منذ عقود، يُعتبر نهر الفرات شريان الحياة للسوريين في الشرق، حيث يغذي سدوداً كبرى مثل سد الفرات وسد تشرين، ويوفر مياه الري والكهرباء لملايين الناس. لكن التقارير الصادرة عن الإدارة الذاتية لشمال وشرق سوريا تكشف أرقاماً صادمة: انخفضت كميات المياه الواردة من النهر إلى أقل من 200 متر مكعب في الثانية، مقارنةً بالاتفاق السوري-التركي لعام 1987 الذي ينص على 500 متر مكعب في الثانية.
ولم تتوقف آثار هذا الانخفاض عند حدود الطاقة، بل انعكست بشكل مدمر على الزراعة، إذ تقلصت ساعات توليد الكهرباء في سد الفرات إلى ساعتين فقط يومياً، فيما توقفت سدود أخرى عن العمل بالكامل تقريباً.
تشابك معقد يقود إلى الكارثة
تتنوع الأسباب الكامنة وراء أزمة الفرات، لكنها تتقاطع عند نقطتين أساسيتين: السياسة والمناخ. فبينما تبرّر تركيا انخفاض تدفق المياه بتراجع الأمطار والثلوج نتيجة التغير المناخي، تتهم الإدارة الذاتية تركيا بتقليص حصة سوريا عمداً، مستخدمةً سدودها الكبرى مثل سد أتاتورك كورقة ضغط سياسية.
وتؤكد تقارير لجان مراقبة الأنهار الدولية أن التدفقات تراجعت بأكثر من 60% مقارنةً بالمعدل الطبيعي، ما يعزز الرواية القائلة إن السياسة تتدخل بشكل مباشر في صميم الأزمة المائية.
القمح والقطن يدفعان الثمن
لا يمكن الحديث عن نهر الفرات دون التطرق إلى الأراضي الزراعية التي تعتمد عليه. مناطق مثل الرقة ودير الزور والحسكة لطالما شكلت سلة الغذاء السورية. أما اليوم، وبحسب تقرير لجنة الزراعة والري في الإدارة الذاتية، فقد تقلصت المساحات المزروعة بنسبة 37% هذا العام مقارنة بالموسم السابق.
والنتيجة، أراضٍ بور، قنوات ري معطلة، وتربة متملحة، ما يعني انهياراً تدريجياً في إنتاج القمح، الشعير، والقطن. ويحمل هذا الانهيار الزراعي آثاراً تتجاوز الاقتصاد المحلي، إذ يزيد من اعتماد سوريا على الواردات الغذائية، ويرفع من معدلات الفقر والجوع في منطقة تعاني أصلاً من ويلات الحرب والنزوح.
البيئة تدفع الثمن أيضاً
لم يقتصر الضرر على البشر والزراعة، بل ضرب الجفاف الحياة الطبيعية بقسوة. بدأت بعض أنواع الأسماك في الانقراض بسبب الجفاف في مجاري النهر، فيما تدهورت النباتات على ضفتيه، وتحولت بعض البحيرات إلى مستنقعات ذات روائح كريهة.
وهذا التدهور أفسح المجال أمام الحشرات والبعوض، مما زاد من خطر انتشار الأمراض الجلدية والتنفسية، خاصة في المخيمات العشوائية التي تعتمد على مياه النهر الملوثة. فيما تحذر تقارير منظمة الصحة العالمية من تزايد حالات الكوليرا وحمى التيفوئيد، ما ينذر بأزمة صحية لا تقل خطورة عن الأزمة المائية.
العطش سبباً للهجرة!
ومع اختفاء مصادر المياه والكهرباء، لم يكن أمام سكان القرى الواقعة على ضفاف الفرات سوى الرحيل. فقد أشارت تقارير محلية إلى أن العديد من القرى في ريف الرقة أصبحت شبه خالية من السكان، بعدما اضطر الأهالي إلى النزوح بحثاً عن مصادر بديلة للحياة.
وأظهرت بيانات إدارة السدود أن مستوى بحيرة سد الفرات انخفض إلى 298.32 متر فوق سطح البحر، أي بانخفاض يتجاوز 5.5 أمتار عن المعدل الطبيعي، وهو ما يعادل فقدان نحو 4 مليارات متر مكعب من المخزون المائي. واستمرار هذا الانخفاض ينذر بخروج السد عن الخدمة، وهو سيناريو كارثي، وبحال حصوله، فإنه يهدد بإغراق المنطقة في ظلام وعطش وفقر غير مسبوق.
هل تنتهك تركيا القانون الدولي؟
وفقاً لاتفاقية الأمم المتحدة لعام 1997 حول استخدام المجاري المائية الدولية، يُمنع أي طرف من تقليص حصة بلد آخر من الموارد المائية بشكل يهدد استقراره. ومع ذلك، ترى العديد من الجهات البيئية في سوريا أن تركيا تخرق هذه القوانين بشكل واضح، وتطالب بتفعيل آليات الرقابة الدولية وإشراك الأمم المتحدة في الإشراف على تقاسم المياه.
اقتصاد منهار وسلة غذاء مفقودة
وفي هذا السياق، يحذر خبراء الاقتصاد من تداعيات هذه الأزمة على المدى الطويل. فانخفاض الإنتاج الزراعي لا يعني فقط تراجعاً في السوق المحلي، بل يشكل تهديداً مباشراً للأمن الغذائي ويزيد من هشاشة الاقتصاد السوري، الذي يعاني أصلاً من آثار الحرب والعقوبات الدولية. والتوقعات تشير إلى تراجع سلة الغذاء الوطنية خلال السنوات المقبلة، مما سيدفع ملايين السوريين إلى شفا الجوع والفقر المدقع.
ختاماً، إن أزمة الفرات ليست مجرد مسألة عابرة أو موسمية؛ بل أزمة متعددة الأوجه تمس الأمن المائي والغذائي والصحي والسياسي معاً. وبغياب تحرك المجتمع الدولي، قد نشهد انهياراً بيئياً واقتصادياً يهدد ليس فقط شمال شرقي سوريا، بل المنطقة بأكملها…