الكاتب: أحمد علي
بعد أكثر من عقد من الصراع الدموي، تبدو سوريا اليوم على أعتاب مرحلة جديدة، لكن هذه المرحلة لا تخلو من تعقيدات، خاصة في ظل استمرار الوجود العسكري التركي في الشمال السوري. ففي الوقت الذي صدرت فيه تصريحات تركية تؤكد أن أنقرة لا تنوي الانسحاب من سوريا في الوقت الراهن، تُطرح تساؤلات حول مستقبل العلاقة السورية التركية ودور تركيا في إعادة تشكيل المشهد السوري الجديد؟ كيف تدخلت تركيا في المشهد السوري؟ ومتى ستنسحب؟ ما هي المحطات البارزة في العلاقات الثنائية بين البلدين؟ هذه الأسئلة وغيرها سنجيب عنها عبر هذا المقال الشامل من «سوريا اليوم 24».
العلاقة السورية التركية: كيف بدأت الحكاية؟
2011: بداية الأزمة
في عام 2011، اندلعت احتجاجات شعبية في سوريا ضمن موجة ما سمي «الربيع العربي»، مطالبة بإصلاحات سياسية في البلاد. لاحقاً تحوّلت هذه الاحتجاجات سريعاً إلى صراع مسلّح، مع تصاعد القمع من قبل النظام السوري بقيادة بشار الأسد. وتركيا، التي كانت تربطها علاقات جيدة بالنظام السوري، سرعان ما غيرت موقفها، داعمةً المعارضة السورية ومطالبةً برحيل الأسد، وكان شكل الدعم معنوي وعسكري غير مباشر.
2016: التدخل العسكري التركي المباشر
كان العام 2016 لحظة فارقة في الدور التركي داخل المشهد السوري المعقّد، فكان تاريخ 24 آب من هذا العام، لحظة التدخل العسكري التركي المباشر في المشهد السوري، حيث أطلقت تركيا عملية أسمتها حينها «درع الفرات»، مستهدفة تنظيم «الدولة الإسلامية في العراق والشام» (داعش) ووحدات حماية الشعب الكردية (YPG) في شمال سوريا. وتمكنت القوات التركية والفصائل السورية المدعومة منها من السيطرة على مناطق واسعة، بما في ذلك جرابلس والباب.
2018-2019: عمليات عسكرية إضافية
لاحقاً، وفي عام 2018، أطلقت تركيا عمليتين عسكريتين إضافيتين: الأولى حملت اسم «غصن الزيتون» في 2018 و«نبع السلام» في 2019، مستهدفةً القوات السورية الكردية في عفرين ومناطق شرق الفرات. وأدت هذه العمليات إلى توسيع نطاق السيطرة التركية في الشمال السوري.
الوجود العسكري التركي الحالي
بحسب تقارير، تحتفظ تركيا بأكثر من 20 ألف جندي في سوريا الآن، موزعين على عشرات القواعد والنقاط العسكرية في محافظات حلب، إدلب، الرقة، الحسكة، اللاذقية. وتشمل هذه المواقع قواعد جوية مثل مطار «منغ» العسكري وقاعدة T4 الجوية في تدمر، والتي تم تطويرها بالتعاون مع الحكومة السورية الجديدة.
غولر: لن ننسحب الآن!
في مقابلة مع وكالة «رويترز» مؤخراً، وتحديداً في 4 حزيران 2025، كشف وزير الدفاع التركي ياشار غولر (Yasar Guler) أن بلاده بدأت بتقديم تدريبات عسكرية وخدمات استشارية للجيش السوري، إلى جانب خطوات لتعزيز قدراته الدفاعية، كاشفاً على أن أنقرة لا تخطط حالياً لسحب أو إعادة نشر قواتها المنتشرة في سوريا.
وفي معرض حديثه، أوضح غولر، الذي يشغل منصبه منذ عامين بعد تعيينه من قبل الرئيس التركي رجب طيب أردوغان (Tayyip Erdogan)، أن أولويات تركيا في سوريا تتركز على الحفاظ على وحدة أراضيها، ودعم جهودها في مكافحة الإرهاب، مؤكداً أن أنقرة «تدعم دمشق في هذا الإطار».
وأشار إلى أن إعادة تقييم وجود أكثر من 20 ألف جندي تركي في سوريا لن تتم إلا في حال تحقق عدة شروط، من بينها إحلال السلام والاستقرار، القضاء الكامل على التهديدات الإرهابية، تأمين الحدود التركية، وضمان العودة الطوعية والآمنة للسوريين الذين غادروا البلاد خلال الحرب.
اقرأ أيضاً: هل تتجاوز تركيا حدود السيادة السورية؟!
ورداً على هذه التطورات المرتبطة بالعلاقة مع «إسرائيل» وما تقوم به الأخيرة في سوريا، أكد غولر أن المحادثات بين تركيا و«إسرائيل» بشأن تجنّب التصعيد (de-confliction) لا تزال مستمرة، موضحاً أنها تقتصر على «اجتماعات فنية تهدف إلى وضع آلية لتفادي الحوادث غير المرغوبة»، وتشكيل «هيكلية للتواصل والتنسيق»، مشدداً في الوقت نفسه على أن هذه المباحثات «ليست مسار تطبيع» بين الطرفين.
وأكد غولر أن أي تغيير في هذه السياسة التركية الخاصة بسوريا مرهون بتحقق الظروف الأمنية والسياسية المناسبة، مضيفاً: «هذا الأمر لا يمكن إعادة النظر فيه إلا بعد أن يتحقق السلام والاستقرار في سوريا، ويُزال التهديد الإرهابي بالكامل، وتُؤمَّن حدودنا بشكل تام، ويتم تأمين عودة كريمة للذين اضطروا إلى النزوح» وذلك حسب تعبيره للوكالة الأمريكية «رويترز».
العلاقات التركية السورية: تاريخ معقد
العهد العثماني وما بعده
كانت سوريا جزءاً من الدولة العثمانية منذ عام 1516 حتى نهاية الحرب العالمية الأولى في 1918. بعد ذلك، خضعت سوريا للانتداب الفرنسي، بينما تأسست الجمهورية التركية الحديثة. وفي عام 1939، ضمت تركيا منطقة لواء إسكندرون (Hatay)، وهو ما لم تعترف به سوريا، مما أدى إلى توتر دائم في العلاقات.
العلاقات في القرن العشرين
شهدت العلاقات بين البلدين توترات متكررة، خاصة بسبب دعم سوريا لحزب العمال الكردستاني (PKK) في الثمانينيات والتسعينيات. وفي عام 1998، وقعت الدولتان اتفاقية «أضنة»، التي أدت إلى تحسن مؤقت في العلاقات.
وجاء توقيع الاتفاقية نتيجة لتصاعد التوتر بين البلدين بسبب دعم سوريا لحزب العمال الكردستاني (PKK) وزعيمه عبد الله أوجلان، الذي كان يقيم في دمشق. حينها، هدّدت تركيا باتخاذ إجراءات عسكرية ضد سوريا، مما دفع الأخيرة إلى التفاوض تحت وساطة مصرية وإيرانية لتجنب التصعيد.
نصت الاتفاقية على التزام سوريا بعدم دعم حزب العمال الكردستاني (الذي حل نفسه مؤخراً)، وطرد أوجلان من أراضيها، ومنع إقامة معسكرات تدريبية للحزب داخل سوريا. كما منحت الاتفاقية تركيا الحق في ملاحقة «الإرهابيين» داخل الأراضي السورية حتى عمق 5 كيلومترات، في حال إخفاق سوريا في اتخاذ التدابير الأمنية اللازمة. ونشير هنا إلى العمق مسألة خلافية، فهناك مصادر تتحدث عن أعماق أكبر من ذلك، وسبب الجدل هو أن الاتفاقية غير منشورة حتى اللحظة.
ووفق ما تسرّب منها، تضمنت الاتفاقية أيضاً بنوداً تتعلق بإنهاء الخلافات الحدودية بين البلدين، حيث اعتبر الطرفان أن الخلافات الحدودية بينهما منتهية، وأن أياً منهما ليس له أية مطالب أو حقوق مستحقة في أراضي الطرف الآخر. وقد فُسر هذا البند بأنه تخلٍّ رسمي من سوريا عن مطالبتها بلواء إسكندرون الذي ضمّته تركيا لأراضيها في الثلاثينيات.
وبعد توقيعها، أسهمت الاتفاقية في تحسين العلاقات بين البلدين في السنوات التالية، حيث تم تأسيس مجلس أعلى للتعاون الاستراتيجي وتوقيع عشرات الاتفاقيات في مختلف المجالات. إلا أن العلاقات توترت مجدداً بعد اندلاع الثورة السورية.
العقد الأخير وتعنّت الأسد
مع اندلاع الأزمة السورية في 2011، تدهورت العلاقات بشكل حاد، حيث دعمت تركيا المعارضة السورية، بينما اتهم النظام السوري أنقرة بالتدخل في شؤونه الداخلية. غير أن المسؤولين الأتراك وعلى رأسهم الرئيس التركي أردوغان كانوا قد طالبوا الأسد بالجلوس على طاولة الحوار للتفاوض وإيجاد الحلول قبل سقوطه، واستمرت هذه الدعوات، وبصيغة مكثفة جداً طيلة 6 أشهر وأكثر قليلاً، لكن لم تجد مطالب تركيا آذاناً صاغية في دمشق حينها، ولم تتعاطى معها سلطة الأسد بشكل جدي، واضعة الانسحاب التركي الشامل شرط مسبق للتفاوض، وكان من أبرز المشاهد الدّالة على عدم التعاطي الجدي من قبل سوريا مع دعوات التركية، والتي أصبحت مادّة للتندّر والسخرية لاحقاً؛ هي قول الأسد في أحد المقابلات الصحفية قبيل السقوط: «لماذا ألتقي مع أردوغان؟ لكي أشرب المرطبات يعني مثلاً؟!».
بنتيجة ذلك لم يحصل اللقاء المنشود، وذلك رغم الضغط الكبير الذي مارسته أنقرة على الأسد، والذي وصل حدّ القول العلني والمباشر والموجه للسلطة السابقة: «إسرائيل ستغزو دمشق» في محاولة منها لإيصال رسالة للأسد بخطورة الوضع في المنطقة وضرورة اللقاء. كل هذا كان بلا نتيجة وبعد أن يأس أردوغان من الأسد، قال: «لم يقدّر الأسد قيمة اليد التي مدتها تركيا له، ولم يفهم معناها» ودعم قوى المعارضة المسلحة التي انطلقت من إدلب ثم حلب ثم حماه وحمص وصولاً إلى دمشق وإعلان سقوط الأسد في 8 كانون الأول 2024.
ومع سقوط سلطة الأسد في كانون الأول 2024 وتولي الرئيس الانتقالي أحمد الشرع السلطة، بدأت العلاقات في التحسن، مع استئناف التعاون العسكري والاقتصادي بين البلدين.
بين الماضي والحاضر
ختاماً، نشير إلى أن العلاقات التركية السورية تمتد عبر قرون، من الحكم العثماني إلى الجمهورية الحديثة. واليوم، ومع التغيرات الجذرية في المشهد السوري، يبدو أن تركيا تجد نفسها في موقع مؤثر في إعادة تشكيل سوريا ما بعد الحرب.
لكن هذا الدور يثير تساؤلات حول السيادة السورية والتوازنات الإقليمية.. فهل سيكون الوجود التركي في سوريا عامل استقرار أم مصدر توتر جديد؟ لا يمكن تقديم رؤية حاسمة ضمن إحداثيات اللحظة، فالإجابة على هذا السؤال ستتضح مع مرور الوقت وتطور الأحداث في المنطقة وسوريا…