في زمن التحولات الكبرى، تتطلب الحقيقة من يصغي، لا من يحتفل أو يندب. ولعل هذا بالضبط ما يقدّمه الدبلوماسي والمفاوض الأميركي السابق فريد هوف Frederic Hof، الذي تنقّل بين العواصم، ورافق مفاوضات السلام بين سوريا و«إسرائيل». في هذا المقال، نستعرض أهم ما قاله هوف في حواره المطوّل، حيث قدّم رؤية متأنّية حول مستقبل سوريا، تعقيدات العلاقة مع «حزب الله»، واحتمالات السلام مع «إسرائيل». المقال لا يقدّم تحليلاً أو رأياً، بل يسلّط الضوء على شهادة رجل كان في قلب المشهد.
فريد هوف: من «لحظة مفصلية» إلى شكٍّ مبرر
في حوار مطوّل أجرته معه «المجلة»، قال فريد هوف أن لحظة لقاء الرئيسين ترامب والشرع في الرياض ورفع العقوبات عن سوريا تمثل «خطوة في الاتجاه الصحيح»، لكنها ليست كافية. فـ «زوال نظام الأسد» نهاية عام 2024 خطوة مهمة، لكن استقرار سوريا وإعادة إعمارها، سياسياً واقتصادياً، مهمة معقّدة جداً حسب تعبيره. وفي حواره، بدا هوف متفائلاً بحذر، وذكّر بأن الطريق ما زال طويلاً، وأن الشك لا يزال مبرراً.
يرى هوف أن على سوريا الجديدة أن تلتزم بـ«تطهير البلاد من العناصر الإرهابية»، وأن تكرّس مبدأ المواطنة. موضحاً أن واشنطن تريد من حكومة الشرع أن تعكس تنوّع السوريين، وتحكم بمنطق الشمول لا الإقصاء.
كما يشير هوف إلى أن سوريا الجديدة قد تمنح لبنان فرصة تحرّك لم تكن متاحة من قبل، خصوصاً في ظل تقارير عن محادثات سرّية سورية-إسرائيلية. فهذا يمنح بيروت هامشاً للسعي إلى هدنة رسمية، بناء على اتفاق 1949 من وجهة نظره.
هل السلام مع «إسرائيل» هو مفتاح استعادة الشرعية الدولية؟
بحسب هوف، فإن سوريا الجديدة قد تنظر للسلام كشرط ضروري لإعادة الإعمار، وجذب الاستثمارات، واستعادة الشرعية. لكنه لا يرى أن إسرائيل ستتخلّى عن الجولان في المدى المنظور، خاصة في ظل اليمين الحاكم.
ويحمل هوف عتباً عميقاً على الرئيس الأميركي السابق باراك أوباما، الذي رفض الاتصال بالأسد لتحذيره من الحرب. «مكالمة واحدة»، كما يقول هوف، «ربما كانت ستُغيّر كل شيء». لكنها لم تُجر، وضاعت الفرصة.
وفي حديثه، يروي هوف كيف أن الأسد كان مستعداً، نظرياً، لفك الارتباط الاستراتيجي مع إيران و«حزب الله». لكنه بالغ في ثقته بأن هؤلاء الحلفاء سيقبلون ذلك. ويعتقد هوف أن رئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نتنياهو يستفيد سياسياً من استمرار الحرب، وأنه يخشى أن يؤدي وقفها إلى فتح تحقيقات حول فشل 7 أكتوبر، وهو ما يعرقل جهود التهدئة.
فيما يُشير هوف إلى دور محوري لعبه الرئيس أردوغان في إقناع ترامب برفع العقوبات عن سوريا، معتبراً أن العلاقة المعقدة بين أنقرة وتل أبيب قد تتيح لسوريا الجديدة لعب دور الوسيط بين الجانبين.
اقرأ أيضاً: تركيا و«إسرائيل» في سوريا: تنسيق أمني أم تحاصص وتقاسم نفوذ؟!
رحيل الأسد: سقوط مرحلة أم انهيار تحالفات؟
في حديثه عن نهاية عهد بشار الأسد، لا يخفي فريد هوف دهشته من السقوط السريع لرجلٍ ظنّ أنه سيبقى في السلطة مدى الحياة. فالرجل الذي كان محاطاً بدعم روسي وإيراني قوي، رحل فجأة، كاشفاً ما وصفه هوف بـ«الفساد العميق داخل النظام»، والانهيار الكامل للمؤسسات، بما في ذلك الجيش.
هوف لا يرى في سقوط الأسد مجرد انتقال سياسي، بل يعتبره حدثاً استراتيجياً يهزّ توازنات إقليمية ودولية، ويضع حلفاء الأسد، خصوصاً روسيا، أمام سؤال حرج: هل راهن الكرملين على «الحصان الخطأ»؟ رغم تحفظه في الإجابة، يشير هوف إلى أن دعم بوتين للأسد لم يكن فقط من أجل سوريا، بل لإيصال رسالة داخلية مفادها أن روسيا ما زالت قوة عظمى قادرة على حماية حلفائها.
لكن اليوم، ومع التغيير في دمشق، تبرز معضلة جديدة لموسكو: إذا طالبت الحكومة السورية الجديدة بمحاكمة الأسد، فذلك سيشكل ضربة قاصمة لسردية بوتين. ورغم الغموض بشأن الدور الروسي المقبل في سوريا، يلمّح هوف إلى أن نفوذ موسكو لم ينتهِ، لكنه قد يضطر إلى إعادة التموضع، في مشهد إقليمي لم يعد كما كان.