الكاتب: أحمد علي
في عصرٍ باتت فيه التغريدة أقوى من الرصاصة، لم تعد الحروب تدار فقط في ساحات المعارك، بل امتدت إلى فضاءات رقمية تتحكم بها حسابات وهمية ومنصات تواصل اجتماعي، تُسخّر لخدمة أجندات مشبوهة. فعلى سبيل المثال، تبين أن 782 حساباً من أصل 1000 من الحسابات المحرضة هي حسابات وهمية، فكيف تُدار هذه الحرب؟ من ضمن من كشف هذا التحريض الاصطناعي الممنهج، تحقيق أجرته هيئة الإذاعة البريطانية «بي بي سي»، حيث أضاء التحقيق على شبكة واسعة من الحسابات الخارجية النشطة على منصة «إكس» (تويتر سابقاً)، تسعى بشكل ممنهج لتأجيج الصراعات الطائفية في سوريا، وتروّج لمعلومات مضللة حول الواقع السياسي والاجتماعي في البلاد.
على مدى أشهر، تتبّع فريق التحقيق أكثر من مليوني منشور رقمي مرتبط بالأحداث السورية منذ سقوط النظام السابق، محللين عيّنة ضخمة تضم 400 ألف تغريدة. وقد أظهرت النتائج بجلاء وجود حملات رقمية محكمة، تستهدف الحكومة السورية وبعض الأقليات، من خلال أساليب تضليل متقنة وخطاب كراهية ممنهج.
المحتوى الذي رُصد لم يقتصر على طرف واحد، بل توزّع بين حسابات تهاجم الإدارة السورية الجديدة وأخرى تمارس الترويج لها بصورة دعائية، ما يكشف وجود تضاد رقمي يخدم في الظاهر أطرافاً متناحرة، لكنه في العمق يخلق بيئة مسمومة لتأجيج الفتن.
الحسابات الوهمية… أدوات الحرب الحديثة
اعتمدت هذه الشبكات على استخدام ما يُعرف بـ«الحسابات الروبوتية» أو الوهمية، التي تعمل بخوارزميات معينة لنشر محتوى مكرر ومنسّق. غالباً ما تحمل هذه الحسابات أسماء متسلسلة مثل «قاصف 1»، «قاصف 2»، أو رموزاً عشوائية من الأحرف والأرقام، وتقوم بنشر نفس التغريدات في أوقات متزامنة بهدف إغراق النقاشات وتحويل دفة الرأي العام.
واحدة من أكثر التكتيكات شيوعاً التي تم توثيقها هي إعادة تدوير مقاطع فيديو قديمة وإعادة نشرها وكأنها حديثة. على سبيل المثال، تم في نهاية عام 2024 نشر فيديو يُظهر رجلاً يحطم تمثالاً لمريم العذراء مع مزاعم أنه من تنفيذ عناصر تابعة لجماعات مسلحة، لكن تبين لاحقاً أن المقطع يعود إلى عام 2013 ولا يمت بصلة للأحداث الجارية.
في حادثة أخرى، انتشر خبر مزعوم عن إعدام كاهن في كنيسة مار إلياس على يد ما وُصف بـ«عصابات الجولاني»، ليتضح لاحقاً أنه خبر كاذب تماماً، تم نشره وتكراره عبر مئات الحسابات خلال أقل من ساعة.
أكثر من 100 ألف تعليق ضد الطائفة العلوية
رصد التحقيق ما يفوق 100 ألف تعليق مسيء ضد الطائفة العلوية، نُشر منذ نوفمبر 2024 حتى اليوم. أبرز هذه التعليقات جاءت من حسابات جرى تحديد مواقعها الجغرافية في الخليج العربي وتركيا. وتكررت فيها كلمات مثل «كفّار» و«مجرمون» و«الطغمة العلوية»، مع تحريض صريح على العنف في بعض الحالات.
هذا التحريض لا يأتي من فراغ، بل يتزامن غالباً مع أحداث عنف ميدانية، مثل ما حدث في مناطق الساحل السوري خلال آذار، حيث وثّقت منظمات حقوقية مقتل أكثر من ألف مدني من الطائفة العلوية، وسط تصاعد في الخطاب العدائي على وسائل التواصل.
اقرأ أيضاً: ما الذي حدث في الساحل السوري؟
القائد الإصلاحي
لم تكن الحملات المناهضة وحدها على الساحة. فقد رصد التحقيق أيضاً شبكة داعمة للرئيس السوري الانتقالي أحمد الشرع، تتألف من أكثر من 80 ألف منشور تكرّس سردية تصفه بـ«القائد الإصلاحي». أغلب هذه الحسابات كانت تتركز في الخليج العربي وتركيا، وتستخدم صياغات متماثلة أو معدلة بشكل بسيط لترويج الرسالة ذاتها.
ومثل نظيرتها المعارضة، أظهرت هذه الشبكة مؤشرات واضحة على التلاعب، من خلال النشاط المكثف المتزامن، وإعادة تدوير نفس المنشورات لتعزيز تأثيرها.
«الفتنة الدرزية» في جرمانا: تسجيل مفبرك يشعل العنف
في مثال آخر على خطورة هذه الحملات، وثّق التحقيق حادثة جرت في مدينة جرمانا بريف دمشق، حين انتشر تسجيل صوتي منسوب لأحد مشايخ الطائفة الدرزية، يتضمن إساءات للنبي محمد. التسجيل أدى إلى اشتباكات دموية، لكنه كان مفبركاً وفق تأكيدات الشيخ ذاته ووزارة الدفاع السورية.
وقد بدأت حملة التحريض من داخل سوريا، ثم انتشرت سريعاً إلى حسابات في العراق والخليج العربي، ما يشير إلى تنسيق عابر للحدود.
بالاستناد إلى المعطيات الموثّقة، نعرض فيما يلي فقرة متكاملة تُلخّص نتائج الدراسة الإحصائية التي أجرتها منصة «جدل – برافا» لأعمال النشر والترجمة، بإشراف صاحبها رواد العوام، وبمشاركة مجموعة من الباحثين:
«جدل – برافا» تلتقط الأمر مبكراً
في إطار متابعة وتحليل الخطاب الإلكتروني الطائفي والسياسي، أجرت منصة «جدل – برافا» للنشر والترجمة، بإشراف الكاتب رواد العوام، دراسة إحصائية أولية بين 20 شباط و15 آذار 2025، شملت ألف حساب على موقع فيسبوك، المنصة الرقمية الأكثر استخداماً في سوريا. وهدفت الدراسة إلى رصد الحسابات التي تنشر أو تروّج لتعليقات ومنشورات تتضمن عنفاً طائفياً ممنهجاً أو تحريضاً سياسياً مباشراً.
كشفت النتائج الأولية عن معطيات مثيرة للقلق: إذ تبين أن 782 حساباً من أصل 1000 هي حسابات وهمية، ما يمثل 78.2% من العينة المدروسة، مما يعكس مدى تغلغل الحسابات المزيفة في صياغة وتوجيه الرأي العام الرقمي السوري. أما من بين الحسابات الحقيقية، فقد قام 83 حساباً (أي بنسبة 8.3%) إما بحذف تعليقاتهم أو تقديم اعتذار علني عنها، بينما قام 106 حسابات (10.6%) بإعادة نشر ذات المحتوى العنيف ولكن بصيغ أخرى مختلفة، في محاولة للتحايل على الخطاب دون التراجع عنه فعلياً.
كما لُوحظ أن 29 حساباً (بنسبة 2.9%) قامت بنسخ التعليق ذاته ونشره حرفياً على منشور تابع لصفحة «الجزيرة»، ما يشير إلى وجود تنسيق أو تحريض ممنهج يعكس محاولة تضخيم خطاب معين داخل فضاء رقمي محدد.
ورغم أن التحليل المقدم لا يعتمد على أدوات تحليل احترافية متقدمة، إلا أنه يمثل خطوة أولى مهمة تعكس مؤشرات عامة حول سلوك الحسابات الرقمية في سوريا. وتشير الدراسة إلى أن هناك تهيئة ممنهجة للرأي العام تتم عبر فيسبوك، وهي تهيئة لا يبدو أن السوريين أنفسهم يسيطرون عليها أو يديرونها. بل على العكس، فإن الحسابات الوهمية والنشاطات المتزامنة تدلّ على تدخلات خارجية تهدف لتوجيه المزاج العام في البلاد.
وقد أشار رواد العوام إلى أن الدراسة تحتوي على مستويات أعمق من التحليل سيتم الكشف عنها لاحقاً، مؤكداً أن أي مشروع سياسي يسعى للنفاذ إلى الداخل السوري يبدأ دائماً بمحاولة فرض تصورات معينة على الوعي الجمعي عبر أدوات الإعلام الرقمي. ومن هنا، فإن هذه الدراسة تُعدّ جرس إنذار لكل من يهتم بالشأن السوري لفهم ما يُطبخ خلف الكواليس الافتراضية.
تحليل: كيف تُدار هذه الحملات ومن يقف خلفها؟
بحسب رسلان طراد، الباحث في مختبر «DFRLab»، فإن النقاشات حول سوريا على وسائل التواصل تتسم بتعقيد واستقطاب عميقين، مدفوعة بأجندات طائفية وإقليمية. وأوضح أن هناك إشارات إلى حملات منظمة تخدم أهدافاً إيرانية و«إسرائيلية»، وتشارك فيها حسابات يُعتقد أنها تُدار من تركيا، الإمارات، مصر، وحتى روسيا على حدّ قوله.
كما أكد أن الخطاب الرقمي يُعاد تأطيره باستمرار ليخدم دعاوى التقسيم، مقابل خطاب رسمي يدعو إلى الوحدة الوطنية، وهو ما يُنتج صراعاً دائماً بين الروايتين.