الكاتب: أحمد علي
بعد عقود من الهيمنة الأمنية التي خنقت الحريات وأرهبت المواطنين، تقف سوريا اليوم على أعتاب مرحلة جديدة تحاول فيها إعادة صياغة بنيتها الأمنية بما يتماشى مع تطلعات شعبها نحو دولة القانون والعدالة. في هذا السياق، أعلنت وزارة الداخلية عن هيكلية أمنية جديدة تهدف إلى تفكيك إرث النظام السابق وبناء مؤسسات أمنية حديثة تُخضع للرقابة المدنية وتعمل وفق المعايير الدولية. فيما تشغل بال السوريين عدد من الأسئلة والأفكار حول مستقبل سوريا الأمني وتتعلق بالتركيبة السابقة وشكل تجليها على الأرض من الناحية العملية.. فما الذي يمكن طرحه وتناوله في هذا الإطار؟ هذا ما نسعى إلى نقاشه في هذا التقرير من «سوريا اليوم 24».
مستقبل سوريا الأمني: خطوات نحو التغيير

في جلسة تشاورية جمعت حقوقيين وضباط شرطة منشقين عن النظام السابق، عرض وزير الداخلية السوري الهيكلية الجديدة للوزارة، والتي تضمنت إلغاء شعبة الأمن السياسي المعروفة بدورها القمعي سابقاً، واستحداث إدارات جديدة مثل إدارة مكافحة الإرهاب، مع الإبقاء على إدارات مكافحة المخدرات والاتجار بالبشر.
كما طرح تغيير اسم «الأمن العام» إلى «الأمن الداخلي»، بحيث يكون لكل محافظة مدير للأمن الداخلي، ولكل منطقة إدارية مدير فرعي. ومن أبرز التعديلات استبدال منصب مدير المنطقة كضابط شرطة بشخص مدني يتبع للمحافظ، في خطوة تهدف إلى تقليل الاحتكاك بين المواطنين والضباط وإضفاء طابع مدني على السلطة.
وكشف المحامي السوري عارف الشغال الذي كان حاضراً في الاجتماع المشار إليه أنه في سوريا المستقبل، ستتوزّع المهام الأمنية على ثلاثة أجهزة رئيسية، لكلّ منها صلاحيات محدّدة ومجالات اختصاص واضحة. أول هذه الأجهزة هو جهاز الأمن الداخلي التابع لوزارة الداخلية، والذي سيكون الجهة الوحيدة ذات العلاقة المباشرة بالمواطنين. ووفقاً لما صرّح به وزير الداخلية، فإن عمل هذا الجهاز سيشمل مهام الضابطة العدلية في إطار مكافحة الجريمة، كالتحقيق والتوقيف، وذلك تحت إشراف النيابة العامة، ما يمنحه طابعاً قانونياً ومؤسساتياً واضحاً.
أما جهاز استخبارات الجيش، فسيكون جهازاً يتبع لوزارة الدفاع ويقتصر نشاطه على ما يتعلق بالقوات المسلحة فقط، دون أن يكون له أي دور أو صلة بالمواطنين، سواء من ناحية التحقيق أو التوقيف، ما يجعله جهة داخلية متخصصة بشؤون الجيش.
وأخيراً، هناك إدارة المخابرات العامة، وهي جهاز مستقل قد يرتبط برئيس الجمهورية، ومن المتوقع أن يكون لها دور تقني واحترافي بحت، يتمثّل في جمع المعلومات وتحليلها وتقديمها لصانع القرار. علاقتها بالمواطنين ستكون شبه معدومة من ناحية الإجراءات العدلية كالتوقيف أو التحقيق، حيث ستمارس فقط دور الضابطة الإدارية دون الدخول في صلاحيات الضابطة العدلية.
وبهذا التوزيع، يبدو أن التوجّه الأمني في سوريا الجديدة يسعى إلى التخصص والفصل بين الأجهزة بما يضمن احترافية العمل واحترام الحقوق القانونية للمواطنين.
تحديات التحول من الورق إلى الواقع
رغم أهمية هذه الخطوات، إلا أن التحدي الأكبر يكمن في تنفيذها على أرض الواقع. فالتجربة السورية السابقة أظهرت أن تقسيم الأجهزة الأمنية على الورق لا يعني بالضرورة تحقيق الفصل الحقيقي بينها، بل قد تتحول هذه التقسيمات إلى أدوات جديدة للهيمنة إذا لم تُرافق بإجراءات عملية تضمن استقلالية كل جهاز وخضوعه للرقابة. وفي هذا السياق، ربما من المفيد الاضطلاع على التجارب الدولية في هذا المجال ومحاولة الاستفادة منها، لكن يجد الباحث في هذا الشأن مشكلة في محاولة تلمس نتائج دولة ما في تطبيق ما تعلنه من فصل بين الأجهزة الأمنية والسلطات في البلاد ومدى تحوله إلى واقع بعيداً عن التصنيفات العامة. ففي الحقيقة لا توجد دولة معينة تعتبر الأكثر ريادة في مجال الفصل بين الأجهزة الأمنية، في الوقت الذي تعلن فيه دول كثيرة هذا الفصل مع وجود اختلافات نسبية بين هذه الدول في طبيعة الحال.
تجارب دولية
على هذا الأساس، وبينما كان من الملاحظ بالنسبة للكاتب، الإشارات المكررة إلى كل من نموذجي سنغافورة والسعودية في الحديث عن مستقبل البلاد والنماذج التي ستعتمدها، وجد أنه سيكون من الأولى تناول الواقع الأمني في هذين البلدين وطريقة توزيع المهام الأمنية إذ تتحدث بعض المصادر الإعلامية والتقارير عن كون نموذجي سنغافورة والمملكة العربية السعودية هما نموذجان لنجاح التخطيط الأمني الحديث، حيث اعتمدتا هيكليات متطورة تفصل بين أدوار الأجهزة الأمنية مع ضمان التنسيق الفعّال بينها. وفي حين تختلف الظروف السياسية والجغرافية لكل منهما، فإن كلا البلدين حققا نتائج ملموسة في تعزيز الأمن والاستقرار.
في سنغافورة، يعتمد النظام الأمني على توزيع المهام بين أجهزة متخصصة تخضع لإشراف حكومي دقيق. فإدارة الأمن الداخلي (ISD)، التابعة لوزارة الشؤون الداخلية، تركز على مكافحة التطرف والتهديدات الإرهابية، بينما تتولى وكالة الأمن السيبراني (CSA) حماية الأنظمة الرقمية من الهجمات الإلكترونية. وتلعب الرقابة البرلمانية والتشريعات مثل قانون الأمن الداخلي (ISA) دوراً محورياً في ضمان شفافية عمل هذه الأجهزة دون التعدي على الحريات العامة. وكمثال على ذلك، يتوفر نموذج استجوابي من قبل البرلمان السنغافوري لشركة أمنية خاصة في البلاد حول تفاصيل دقيقية متعلقة بعمل الشركة، الأمر الذي يسمح بفهم ديناميكية العمل في البلاد فيما يخص هذه المسألة، ويعدّ مؤشراً واضحاً على الرقابة المدنية الموجودة في البلاد.
وقد أثمر هذا النموذج عن نتائج ملموسة، حيث تصنف سنغافورة باستمرار بين أكثر الدول أماناً في العالم، مع انخفاض معدلات الجريمة وقدرة عالية على مواجهة التهديدات الإرهابية. كما حققت تقدماً ملحوظاً في مجال الأمن السيبراني، لتصبح من الدول الرائدة في هذا المجال على مستوى آسيا.
أما في المملكة العربية السعودية، فقد شهد القطاع الأمني تحولات كبيرة تماشياً مع رؤية 2030، التي هدفت إلى تحديث الأجهزة الأمنية وتعزيز كفاءتها. فبعد دمج عدة أجهزة سابقة، تأسست رئاسة أمن الدولة (PSS) في 2017 لتصبح الجهة المسؤولة عن مكافحة الإرهاب والجريمة المنظمة، بينما تولت وزارة الداخلية المهام الأمنية التقليدية مثل مكافحة الجريمة وإدارة الحدود.
ولتعزيز الأمن الرقمي، أُنشئت الهيئة الوطنية للأمن السيبراني، التي ساهمت في تحسين تصنيف المملكة في المؤشرات العالمية للأمن الإلكتروني. كما نجحت الأجهزة الأمنية السعودية في تفكيك العديد من الخلايا الإرهابية، مما عزز الأمن الداخلي وقلل من معدلات الجريمة.
الرقابة المدنية: ضمانة لعدم تكرار الماضي
أحد الدروس المستفادة من التجارب الدولية على العموم هو أهمية الرقابة المدنية على الأجهزة الأمنية. ففي دول مثل الدنمارك، تُخضع الأجهزة الأمنية لرقابة برلمانية وقضائية مستقلة، مما يضمن عدم تجاوزها لصلاحياتها وحماية حقوق المواطنين. وفي نيوزيلندا، يُشرف مفتش عام مستقل على أنشطة الأجهزة الأمنية، وله صلاحيات واسعة في التحقيق والتفتيش، مما يُعزز من الشفافية والمساءلة.
خطوات عملية لضمان نجاح الإصلاحات الأمنية في سوريا
لضمان ألا تبقى الهيكلية الأمنية الجديدة مجرد حبر على ورق، يجب اتخاذ خطوات عملية تشمل:
- إصدار تشريعات واضحة تحدد صلاحيات كل جهاز أمني وتمنع التداخل بينها، مع التأكيد على خضوعها للرقابة المدنية والقضائية.
- إنشاء هيئات رقابية مستقلة تُشرف على أداء الأجهزة الأمنية وتُحقق في أي تجاوزات، وتكون لها صلاحيات حقيقية في المحاسبة.
- تدريب الكوادر الأمنية على احترام حقوق الإنسان والقوانين، وتغيير الثقافة الأمنية من القمع إلى الخدمة العامة.
- إشراك المجتمع المدني في مراقبة أداء الأجهزة الأمنية وتقديم الملاحظات والاقتراحات، مما يُعزز من الشفافية والثقة.
- الاستفادة من الدعم الدولي للحصول على الخبرات والموارد اللازمة لتنفيذ الإصلاحات، مع التأكيد على أن تكون هذه الإصلاحات بقيادة وطنية.
نحو مستقبل آمن وعادل
وفي الختام، إن الهيكلية الأمنية الجديدة التي أعلنت عنها وزارة الداخلية السورية تُعد خطوة مهمة نحو بناء دولة القانون والمؤسسات بلا شك. لكن نجاح هذه الخطوة يتوقف على القدرة على تنفيذها فعلياً، وتوفير الضمانات اللازمة لعدم العودة إلى ممارسات الماضي، فالشعب السوري عانى الويلات من حالة التسيّب والقمع التي جثمت فوق صدره لعقود طويلة ويأمل بمرحلة جديدة تفتح صفحة جديدة في حياته تسود فيها القوانين وقائمة على احترام الإنسان ومختلفة كل الاختلاف عما كان في السابق…
اقرأ أيضاً: وزارة الداخلية تحدد آخر مهلة لتسوية أوضاع عناصر نظام الأسد