الكاتب: أحمد علي
في خضم التغطيات الإخبارية المتسارعة حول الاتفاقية الضخمة التي وقّعتها سوريا مؤخراً في قطاع الطاقة، غابت عن معظم التقارير تفاصيل جوهرية تتعلق بالنماذج الاستثمارية المعتمدة، وتحديداً نماذج BOO وBOT. ضمن هذا السياق، يسعى تقرير «سوريا اليوم 24» لسدّ هذه الفجوة، موضحاً هذه النماذج وأبعادها القانونية والاقتصادية، لما لها من تأثير مباشر على مستقبل البنية التحتية والسيادة الوطنية.
أولاً: نظرة عامة على الاتفاقية
في 29 أيار 2025، وقّعت الحكومة السورية مذكرة تفاهم واتفاقية مع تحالف دولي يضم شركات من قطر وتركيا والولايات المتحدة، بقيادة شركة أورباكون القابضة (UCC Holding). بلغت قيمة الاتفاقية 7 مليارات دولار، وتهدف إلى إنشاء أربع محطات توليد كهرباء تعمل بالغاز الطبيعي بنظام الدورة المركبة (Combined Cycle Gas Turbine – CCGT) في دير الزور، محردة، زيزون، وتريفاوي، بطاقة إجمالية تصل إلى 4000 ميغاواط. بالإضافة إلى ذلك، سيتم إنشاء محطة طاقة شمسية بقدرة 1000 ميغاواط في وديان الربيع جنوب البلاد.
برز في الاتفاقية اعتماد نموذجين رئيسيين من نماذج الشراكة بين القطاعين العام والخاص، وهما نموذج BOO (بناء – تملك – تشغيل) ونموذج BOT (بناء – تشغيل – نقل ملكية). وعلى الرغم من حضور هذين النموذجين في مشاريع سابقة حول العالم، فإن اعتمادهما بهذا الحجم والوضوح في الحالة السورية يشكّل تطوراً لافتاً يستحق التوقف عند تفاصيله.
ثانياً: نموذج BOO – البناء والتملك والتشغيل
نموذج BOO – والذي يُعرف اصطلاحاً بـ Build-Own-Operate – هو أحد نماذج التعاقد الحديثة التي تمنح المستثمر الحق في بناء المشروع وامتلاكه وتشغيله بشكل كامل دون التزام بنقل ملكيته إلى الدولة لاحقاً. في هذا الإطار، تتحمّل الشركة المنفّذة جميع التكاليف المتعلقة بالتمويل والتشييد، وتبقى مالكة للمشروع طوال فترة عمله. يُستخدم هذا النموذج غالباً في المشاريع التي تتطلب تمويلاً مرتفعاً وتقنيات متقدمة، ويمنح المستثمرين محفزاً قوياً من خلال ضمان العائد طويل الأمد.
وفي الاتفاقية المشار إليها، استُخدم هذا النموذج في مشروع إنشاء محطة الطاقة الشمسية في وديان الربيع، حيث ستتولى الشركة المستثمرة التشييد والتشغيل وبيع الكهرباء مباشرة إلى المؤسسة العامة للكهرباء، مع احتفاظها بالملكية الكاملة للمشروع.
ثالثاً: نموذج BOT – البناء والتشغيل ونقل الملكية
النموذج الثاني المعتمد في الاتفاقية فهو BOT، وهو اختصار لعبارة Build-Operate-Transfer، ويُطبّق في مشاريع ضخمة تتطلب مشاركة الدولة على المدى الطويل. وفق هذا النموذج، يقوم المستثمر بتمويل المشروع وإنشائه وتشغيله لفترة زمنية محددة، تُعرف باسم «مدة الامتياز»، حيث يعمل خلالها على استرداد رأس المال وتحقيق أرباحه عبر بيع الخدمات أو الإنتاج، قبل أن تُنقل الملكية الكاملة إلى الدولة دون مقابل عند انتهاء مدة العقد. يُنظر إلى هذا النموذج على أنه وسيلة توازن بين الاستفادة من قدرات وتمويل القطاع الخاص، وبين الحفاظ على ملكية الدولة للقطاعات الحيوية.
في اتفاقية الطاقة السورية التي وقعت، جرى اعتماد هذا النموذج في مشاريع محطات توليد الكهرباء بالغاز الطبيعي، حيث ستُشيّد الشركات محطات عملاقة وتديرها لفترة محددة قبل أن تُعاد ملكيتها بالكامل إلى الدولة السورية.
اقرأ أيضاً: 400 كيلو فولت.. هل تنجح الحلول الإسعافية في إنقاذ شبكة الكهرباء السورية؟
رابعاً: الفارق بين النموذجين؟
يتمثّل الفارق الجوهري بين النموذجين في مصير المشروع بعد انتهاء العقد. ففي نموذج BOO، تبقى الأصول بيد المستثمر، مما يثير مخاوف تتعلق بالسيادة والسيطرة الوطنية، خصوصاً عندما يتعلق الأمر بقطاعات استراتيجية كالكهرباء والطاقة. بينما يتيح نموذج BOT للدولة استعادة السيطرة الكاملة على المشروع، ما يُعتبر أكثر ملاءمة في الدول التي تسعى لإعادة إعمار قطاعاتها الحيوية دون التخلّي عنها نهائياً.
اعتماد هذين النموذجين بشكل متوازٍ في الاتفاقية السورية يعكس محاولة للوصول إلى صيغة متوازنة بين استقطاب الاستثمارات الخارجية، وضمان عدم التنازل عن الأصول الاستراتيجية للدولة بشكل دائم. كما يُظهر أن الحكومة السورية منفتحة على تنويع أدوات التمويل وإدخال نماذج شراكة أكثر مرونة، رغم ما يرافقها من تحديات قانونية واقتصادية يجب التعامل معها بحذر.
رابعاً: الأثر الاقتصادي والاجتماعي للاتفاقية وكم تغطي من الحاجة؟
من المتوقع أن تسهم هذه المشاريع في تغطية أكثر من 50% من احتياجات سوريا من الكهرباء، مما يقلل من أوقات التقنين والانقطاعات المتكررة. كما ستوفر هذه المشاريع أكثر من 300 ألف فرصة عمل مباشرة وغير مباشرة في مجالات الهندسة والبناء والصيانة.
إضافة إلى ذلك، فإن إدخال تقنيات حديثة وتدريب الكوادر المحلية سيعزز من كفاءة التشغيل ويسهم في نقل المعرفة إلى الداخل السوري.
ووفق تقديرات رسمية وواقعية، تبلغ حاجة سوريا اليومية من الكهرباء نحو 9000 ميغاواط ساعي لضمان تغذية مستقرة على مدار 24 ساعة، تشمل القطاعات السكنية والصناعية والخدمية. في المقابل، لا يتجاوز الإنتاج الفعلي حالياً 1600 ميغاواط فقط، أي ما يعادل أقل من 18% من الحاجة اليومية، ما يُفسّر فترات التقنين الطويلة والانقطاعات المزمنة التي يعاني منها السوريون في مختلف المحافظات.
في هذا السياق، فإن الطاقة الإجمالية المُقدّرة للاتفاقيات الجديدة التي وقعتها الحكومة الحالية (5000 ميغاواط) وإن تحققت فعلياً، يمكن أن تغطي ما يزيد قليلاً عن 50% من احتياجات البلاد اليومية، وهو ما يُعد نقلة نوعية في حال تم التنفيذ وفق الجدول الزمني المخطط له وضمن بيئة تشغيل مستقرة.
خامساً: تحديات النماذج الاستثمارية في السياق السوري
على الرغم من الفوائد المحتملة لاعتماد نماذج BOO وBOT، إلا أن هناك تحديات خاصة بالسياق السوري، أبرزها غياب الإطار القانوني الواضح الذي قد يؤدي إلى تعقيدات قانونية ونزاعات مستقبلية. بالإضافة إلى الوضع الاقتصادي المتردي، الذي قد لا يمكن المواطنين من تحمل تكاليف الخدمات المقدمة من قبل القطاع الخاص الأجنبي الذي سيبيع الكهرباء للدولة بعد إنتاجها فارضاً سعراً محدداً قد لا يناسب دخل السوريين.
أيضاً، هنالك مخاوف جدية من فقدان السيادة على هذه القطاعات السيادية والشديدة الحساسية في أي بلد، خاصة مع منح ملكية دائمة للمستثمرين في مشاريع استراتيجية كهذه.
ختاماً، لا شكّ تمثل هذه الاتفاقية خطوة مهمة نحو إعادة بناء قطاع الطاقة في سوريا، وجذب الاستثمارات الأجنبية. إلا أن نجاح هذه المشاريع يعتمد على وجود إطار قانوني وتنظيمي واضح، يضمن حقوق جميع الأطراف، ويحافظ على السيادة الوطنية، ويحقق العدالة الاجتماعية.