أصدرت وزارة العدل السورية مؤخراً تعميماً جديداً يفرض ضوابط مشددة لتثبيت البيوع العقارية وضمان نقل الملكية بشكل قانوني، في محاولة للسيطرة على الفوضى التي يشهدها قطاع العقارات.
ويستهدف هذا الإجراء ظواهر التزوير والاحتيال التي تفاقمت خلال سنوات الحرب وما بعدها، مما عرض حقوق آلاف المالكين الأصليين للخطر.
ويأتي هذا التوجه في ظل واقع عقاري معقد، نتج عن النزاع المستمر الذي أدى إلى تشابك قضايا التهجير القسري وضياع الوثائق الرسمية وانتهاكات متكررة لحقوق الملكية، ما يجعل استعادة الحقوق أمراً شبه مستحيل دون تشريعات صارمة.
تفاصيل الإجراءات الجديدة
التعميم الصادر عن وزارة العدل، والذي تم توزيعه على المحاكم وبدأ العمل به مطلع شهر أيار (مايو) الحالي تقريباً، يتضمن مجموعة من الإجراءات الدقيقة لضمان صحة عمليات نقل الملكية قبل تثبيتها قضائياً.
حيث يلزم التعميم أطراف دعاوى تثبيت البيوع أو نقل الملكية بتقديم وثائق مصدقة تثبت تسلسل انتقال الملكية وصولاً إلى المالك الحالي المسجل في السجل العقاري.
كما يفرض على المحاكم إجراء كشف مباشر على العقارات المطروحة في الدعاوى، للتحقق من هوية شاغليها وصفة إشغالهم، سواء كان المالك حاضراً أو غائباً عن الجلسة.
ويشمل التعميم أيضاً التحقيق في أوضاع العقار عبر الجوار، إذ يطلب من المحكمة جمع شهادات من الجيران القريبين للتأكد من هوية المالكين الحقيقيين، والتحقق مما إذا كانوا على قيد الحياة أو معرفة مكان إقامة المدعى عليه الغائب.
وفي حال تغيب المدعى عليه عن الحضور، شدد التعميم على ضرورة إجراء فحص دقيق لتوقيعه أو بصمته على عقد البيع، ومقارنتها بالسجلات الرسمية لضمان صحتها ومنع حالات التزوير.
ولتطبيق هذه الإجراءات بفعالية، تم تكليف إدارة التفتيش القضائي والمحامين العامين في المحافظات بمتابعة التنفيذ وإبلاغ الوزارة بأي مخالفات قد تحدث.
اقرأ أيضاً: وزارة العدل تقرر تشكيل لجنة قضائية لمراجعة أحكام محكمة الإرهاب
دوافع القرار: فوضى عقارية وتهديد للحقوق
لم تأتِ هذه الإجراءات من فراغ، إذ أقرت وزارة العدل في تعميمها أن الهدف الأساسي منها هو الحد من التلاعب بالملكيات العقارية والحفاظ على قوة السجلات الرسمية، وذلك بعد تفاقم حالات التزوير والاحتيال التي باتت تهدد حقوق المالكين في مختلف المحافظات.
وعلى مدار أكثر من عقد من الحرب، تعرضت الملكية العقارية في سوريا لانتهاكات واسعة النطاق، فملايين السوريين هجروا من منازلهم داخلياً وخارجياً، بينما فقد الكثيرون وثائق ملكياتهم الأصلية نتيجة للقصف، الدمار، أو حتى المصادرة.
وهذا الفراغ القانوني أتاح المجال أمام جهات منظمة وغير منظمة للاستيلاء على العقارات بطرق غير مشروعة.
ويشير حقوقيون ومراقبون إلى أن العقارات استخدمت سابقاً كأداة لمعاقبة المعارضين ومكافأة الموالين، عبر قوانين مثيرة للجدل سمحت بمصادرة الأملاك تحت ذرائع مختلفة، أو عبر الاستيلاء المباشر من قبل شخصيات نافذة أمنياً وعسكرياً.
كما استغلت بعض شبكات التزوير هذا الوضع، في ظل تواطؤ أو تغاضٍ من جهات رسمية، مستفيدة من غياب المالك الأصلي وعدم قدرته على المطالبة بحقه، لا سيما مع فرض شرط “الموافقة الأمنية” لإتمام المعاملات العقارية، والذي غالباً ما كان يستخدم كأداة لمنع المعارضين والمهجرين من استعادة ممتلكاتهم.
شهادات حية: ضحايا التزوير والاستيلاء
وتعكس القصص الفردية حجم المأساة التي خلفها التلاعب بالعقارات، فالسيدة سعاد، التي غادرت منزلها في حي سيف الدولة بحلب عام 2015 متجهة إلى تركيا، تفاجأت لاحقاً بأن منزلها تم بيعه بموجب وكالة مزورة تحمل اسمها وصورة هويتها.
وتقول: “تواصلت مع الساكن الجديد، فأخبرني أنه اشترى المنزل من شخص يحمل وكالة عامة موقعة باسمي… حاولت معرفة هوية البائع، لكن لم أتمكن سوى من الحصول على اسمه، وعند استشارة أحد المحامين في العائلة، قال إن الاحتمال الأكبر أنه مجرد واجهة”.
وقصة أخرى يرويها الطبيب سامر، الذي اضطر لمغادرة منزله في دمشق هرباً من الملاحقة الأمنية، وبعد سنوات، سعى لاستعادة منزله المحجوز أمنياً عبر وسيط طلب منه مبالغ مالية وتوقيع وكالة عامة.
ويروي سامر: “قبلت بفكرة الوكالة ودفع رشاوى… وفعلاً وقعت الوثائق ودفعنا حوالي 13 ألف يورو، لكن بعد ثمانية أشهر اكتشفت أن الوسيط أفرغ المنزل من محتوياته وقام ببيعه باستخدام الوكالة الموقعة مني… المنزل لم يكن باسمي حين اشتراه المالك الجديد، إذ قام الوسيط بنقل ملكيته إليه قبل عرضه للبيع”.
أما جمال من حرستا في ريف دمشق، فاكتشف بعد عودته أن جاره، الذي يتمتع بعلاقات مع شخصيات نافذة، قد استولى على منزله عبر تزوير أوراق رسمية، ثم دمج العقار مع منزله في السجل العقاري قبل بيعه.
وهذه الشهادات ما هي إلا نماذج من حالات كثيرة توضح كيف استغل غياب المالكين وضعف المنظومة القانونية والرقابية خلال السنوات الماضية للاستيلاء على الممتلكات.
اقرأ أيضاً: الخارجية السورية تحدث «الأمانة العامة للشؤون السياسية»
تعقيدات المشهد العقاري ما بعد الحرب
المشهد العقاري السوري اليوم يعكس أزمة ممتدة تتجاوز مجرد حالات تزوير فردية، إذ نشأت هذه التعقيدات نتيجة عوامل متعددة تراكمت خلال سنوات النزاع.
ويؤكد أحد القضاة الذي يشرف على برامج قانونية، أن الاستيلاء على العقارات اتخذ أشكالاً مختلفة، منها استخدام قوانين المصادرة، والاستيلاء المباشر، فضلاً عن شبكات تزوير منظمة.
كما تواجه استعادة الملكيات عقبات كبيرة، من بينها وجود عدد كبير من العقارات غير المسجلة رسمياً، إلى جانب حجم الدمار الذي طال السجلات والمباني، كما أن المهجرين الذين فقدوا وثائقهم يواجهون صعوبة في إثبات ملكيتهم، مما يعزز الحاجة إلى آليات قضائية تضمن استرداد الحقوق والتعويضات.
وإضافة إلى هذه التحديات، يشهد القطاع العقاري حالة من التخبط الإداري بسبب تضارب القرارات بين الجهات المعنية، فخلال الأشهر الماضية، صدرت تعاميم متناقضة من المؤسسات المسؤولة عن تسجيل العقارات، مما أربك آليات تنظيم الوكالات وتوثيق العقود.
وفي خطوة أثارت جدلاً واسعاً، طلبت وزارة المالية من المحاكم الامتناع عن إحالة أحكام تثبيت البيوع العقارية إلى السجل العقاري، مبررة ذلك بالاضطراب الإداري، الأمر الذي أدى إلى تعليق تنفيذ أحكام قضائية قائمة وزاد من الجمود في حركة السوق.
الخطوات الجديدة نحو الحل أم مزيد من التعقيد؟
تمثل الإجراءات الجديدة التي أقرتها وزارة العدل خطوة إيجابية نحو ضبط قطاع العقارات، إذ تعكس إدراكاً رسمياً لحجم المشكلة وسعياً لوضع ضوابط أكثر صرامة.
فمن شأن التدقيق في تسلسل الملكية، والكشف المباشر على العقارات، والتحقق من صحة التواقيع، أن يحد من حالات التزوير التي كانت شائعة في السابق.
إلا أن مراقبين يرون أن هذه التدابير وحدها قد لا تكون كافية لمعالجة جذور المشكلة أو التعامل مع الكم الهائل من الانتهاكات التي وقعت خلال السنوات الماضية.
فماذا عن العقارات التي انتقلت ملكيتها بطرق غير قانونية؟ وماذا عن ضحايا القوانين التي سمحت بالمصادرة؟ وما مصير العقارات في المناطق العشوائية التي لا تشملها هذه الإجراءات؟
وتتزايد المطالبات بإنشاء هيئة وطنية مستقلة تعنى برد الممتلكات، وتتمتع بصلاحيات واسعة للتحقيق في التجاوزات، وإعادة النظر في القوانين السابقة، ووضع آليات تضمن إعادة الحقوق لأصحابها أو تعويضهم بشكل عادل.
لكن في ظل غياب مثل هذه الآلية الشاملة، قد تبقى هذه الإجراءات الجديدة مجرد حلول جزئية، وربما تزيد من تعقيد المعاملات العقارية دون أن تقدم معالجة حقيقية لأزمة الملكية التي تشكل أحد أكبر التحديات المستقبلية في البلاد.