الكاتب أحمد علي
في خضمّ تحولات السياسة الدولية، تأتي لحظات مفصلية تتيح للدول استعادة ما فُقِد في غياهب العقوبات والصراعات. واليوم، ومع القرار الأمريكي القاضي برفع العقوبات عن سوريا، عاد إلى الواجهة ملفٌ بالغ الحساسية والأهمية: الأموال السورية المجمدة (كنوز سوريا) في الخارج. هذه الأصول التي كانت محاصرة منذ سنوات، باتت مرشحة للتحرّر، ما يفتح الباب أمام تساؤلات جوهرية: كم تبلغ؟ من يحتفظ بها؟ وهل من الممكن فعلاً استعادتها؟
القرار الأمريكي الأخير لم يمر مرور الكرام في الأوساط الاقتصادية والسياسية السورية، بل اعتُبر نافذة جديدة للتنفس بعد أعوام من الخنق المالي. أحد أبرز من تفاعلوا مع هذا الحدث كان الحاكم الأسبق لمصرف سوريا المركزي، دريد درغام، الذي كشف أن أعلى قيمة لاحتياطي العملات الأجنبية وصلت إليها سوريا في مرحلة ما قبل الحرب كانت تقارب 20 مليار دولار.
شدّد درغام على ضرورة أن يترافق هذا القرار مع خطوات تنفيذية واضحة من الولايات المتحدة، تُشجّع المؤسسات المصرفية والمالية الدولية على الإفراج الفوري عن الأموال السورية المجمدة، دون شروط إضافية أو عوائق بيروقراطية تُعيق التنفيذ.
ليس فقط المصارف: خارطة «كنوز سوريا»
من وجهة نظر درغام، فإن قضية الإفراج عن الأموال لا تقتصر فقط على البنوك، بل تشمل شركات الاتصالات، والسفارات، ومؤسسات دولية أخرى كانت تتعامل مع الجانب السوري خلال سنوات العقوبات. كما حذّر من احتمالية سعي بعض الجهات الداخلية أو الخارجية لاستخدام هذه الأرصدة كضمانات لتسديد ديون سابقة، مطالباً بتصدي حازم لأي محاولات من هذا النوع.
كذلك دعا درغام إلى مطالبة المصارف التي احتجزت هذه الأموال بدفع عوائد تراكمية عنها، استناداً إلى الأعراف الدولية التي تنص على تعويض الدول في حال تجميد أصولها دون وجه قانوني واضح، خاصة إذا كانت المصارف قد استفادت من تشغيل تلك الأموال طيلة فترة التجميد.
كم تبلغ كنوز سوريا المجمدة في الخارج؟
حتى اليوم، لا توجد جهة رسمية أعلنت بدقة عن حجم الأموال السورية المجمّدة في الخارج، إلا أن التقارير والتقديرات الدولية تقدّم مؤشرات متباينة. وثيقة صادرة عن برنامج الأمم المتحدة الإنمائي أشارت إلى أن نحو 500 مليون دولار تم تجميدها بفعل العقوبات، فيما تحدثت وزارة الاقتصاد السويسرية عن تجميد أصول بقيمة 112 مليون دولار في مصارفها.
في بريطانيا، ظهرت بعد سقوط النظام تقارير غير رسمية عن تجميد حساب شخصي للرئيس السابق بشار الأسد بقيمة 68.3 مليون دولار، بينما تشير تقديرات أخرى إلى أن إجمالي الأصول السورية المجمدة هناك يتجاوز 205 مليون دولار.
أما البرلمان الأوروبي، فقد أقرّ في وقت سابق استخدام الأصول المجمدة لتمويل مشاريع إعادة الإعمار في سوريا، دون الإفصاح عن الأرقام الدقيقة، الأمر الذي يفتح باب التساؤلات حول شفافية التعامل الأوروبي مع هذه الأصول.
أموال فيفا المجمّدة
حتى الاتحاد الدولي لكرة القدم «فيفا» كان جزءاً من مشهد التجميد، إذ إن أموالاً كانت مخصّصة للاتحاد السوري لكرة القدم تعرّضت للتقييد، وتشير المعلومات المتداولة إلى أن قيمتها تلامس 11.5 مليون دولار، علماً أن هذه الأموال لم يُفرج عنها طيلة فترة العقوبات.
اقرأ أيضاً: الآلية القانونية والسياسية للعقوبات الأمريكية على سوريا: من الفرض إلى الرفع!
أموال سورية ذهبت ولم تعد
منذ اندلاع الأزمة السورية عام 2011، شهدت البلاد هروباً واسعاً لرؤوس الأموال إلى الخارج، سواء عبر قنوات مصرفية رسمية أو بطرق غير شرعية. وتشير تقارير إلى أن حجم هذه الأموال قد يتجاوز 80 مليار دولار، توزعت بين ودائع مصرفية واستثمارات في دول الجوار مثل لبنان ومصر وتركيا، إضافة إلى دول أوروبية وروسيا.
في لبنان، على سبيل المثال، قُدّرت الودائع السورية المجمدة في المصارف اللبنانية بما بين 20 و42 مليار دولار، وفقاً لتصريحات سابقة للرئيس السوري بشار الأسد. إلا أن تقديرات أخرى تشير إلى أن الرقم قد لا يتجاوز 7 مليارات دولار، بسبب القيود المصرفية والسرية المصرفية المعمول بها في لبنان.
أما في سويسرا، فقد أعلنت الحكومة السويسرية عن وجود أصول سورية مجمدة بقيمة 99 مليون فرنك سويسري (حوالي 112 مليون دولار)، معظمها تم تجميده منذ عام 2011.
بالإضافة إلى ذلك، تشير تقارير إلى أن عائلة الأسد تمتلك ثروة ضخمة تتراوح بين 12 و16 مليار دولار، موزعة بين حسابات مصرفية وممتلكات عقارية واستثمارات في الخارج، مما يزيد من تعقيد جهود استعادة هذه الأموال.
احتياطات الدولة: من الوفرة إلى الهشاشة
ختاماً، يشار إلى أنه من الملاحظ أن احتياطات المصرف المركزي السوري من العملات الأجنبية شهدت تراجعاً حاداً خلال العقد الماضي. ففي حين كانت الاحتياطات تصل إلى 18.5 مليار دولار قبل عام 2011، لا تتجاوز اليوم 200 مليون دولار فقط، بحسب التقديرات الرسمية. وحتى احتياطي الذهب، الذي يبلغ 26 طناً وتقدّر قيمته بـ 2.6 مليار دولار، لم يعد كافياً لضمان الاستقرار المالي في بلد يحتاج إلى إعادة إعمار شاملة.