مقال رأي/ بقلم: عبد الله ديب
في رواية “قنديل أم هاشم” (1944) ، يأخذنا الكاتب والروائي المصري يحيى حقي في رحلة إلى قلب القاهرة، حيث شوارع السيدة زينب النابضة بالحياة وأزقتها المعبأة بالروح الشعبية. هذه الرواية، التي تُعدّ إحدى جواهر الأدب العربي، ليست مجرد قصة عن طبيب شاب يعود إلى وطنه. بل تأمل عميق في الهوية، الإيمان، والإنسانية، مكتوبة بأسلوب يتأرجح بين الشاعرية الرقيقة والواقعية الحادة.
تدور الأحداث حول إسماعيل، طبيب العيون الشاب الذي يعود إلى حي السيدة زينب في القاهرة بعد دراسته في إنجلترا، حاملاً معه آمال التغيير وثقة العلم الحديث. لكنه يصطدم بجدار المعتقدات الشعبية الراسخة، التي يجسدها “قنديل أم هاشم”، رمز الأمل والشفاء في عيون أهل الحي. القنديل، بزيته الذي يُعتقد أنه علاج سماوي، يصبح محور الصراع بين عقلية إسماعيل العلمية الجافة وإيمان مجتمعه. ولا يُعدّ القنديل في الرواية مجرد أداة علاج تقليدية، بل يتجاوز ذلك ليحمل دلالات رمزية أعمق: فهو تمثيل للتجذر في الهوية الجمعية، وللنور الداخلي الذي يُنير حيرة الإنسان في مواجهة التحول. يقدّمه يحيى حقي كرمز مركّب، يتأرجح بين الإيمان الشعبي والبعد الوجودي، ليكون بمثابة بوصلة نفسية وثقافية في زمن التغيير. ويبلغ هذا الصراع ذروته في مواجهة إسماعيل لمرض ابنة عمه فاطمة، حيث يجد نفسه ممزقًا بين واجبه كطبيب وتوقعات أسرته.
ما يميز الرواية هو قدرة يحيى حقي على تحويل قصة محلية إلى حكاية كونية. إسماعيل ليس مجرد طبيب مصري، بل هو رمز لكل إنسان يواجه تناقضات الهوية في عالم متغيّر. لغة حقي غنية بالصور البصرية، حيث يصف شوارع القاهرة وحياة أهلها والأجواء في حرم السيدة زينب، بينما يحافظ على إيقاع سردي يجمع بين الإيجاز والعمق. وجملته تتدفق كضوء القنديل نفسه: خافتة لكنها دافئة، تحمل في طياتها إضاءة للنفس البشرية.
هذا الصراع ليس حكرًا على إسماعيل أو على مصر الأربعينيات. في سوريا اليوم، بعد التحرير، نرى صدى هذا الجدل يتردد بقوة، سواء داخل البلاد أو في الشتات. هناك من يدعو إلى “انسلاخ” وقطيعة تامة مع الموروث، ساعيًا لبناء دولة ومجتمع على الطراز الغربي، بقوانينه وثقافته. في المقابل، يقف من يتمسّك بالهوية الدينيّة والثقافية، رافضًا التخلي عن هويّة شكّلت عمق المجتمع لعقود. مثل إسماعيل، يجد السوريون أنفسهم في مفترق طرق: بين الطموح لمستقبل جديد والخوف من فقدان الجذور، بين “الحداثة” و “التقليد”.
في النقاشات المشتعلة حول سوريا الجديدة، نرى هذا التوتر يتجلى بوضوح. هناك جدل حاد حول شكل الدستور القادم: هل يكون علمانيًا، أم يستبقي على المرجعية الدينية والثقافية للمجتمع؟ الجدل نفسه يمتد إلى التعليم، والقانون، ودور الدين في الدولة. حتى اللغة التي نستخدمها لوصف المستقبل ـ “تحرير، تغيير، تنوير، عودة، قطيعة” ـ تحمل في طيّاتها هذا الصراع بين الأصالة والمعاصرة، بين “القنديل” و”العيادة”.
للسوريين اليوم، “قنديل أم هاشم” هي أكثر من رواية؛ إنها دعوة للتأمل العقلاني والحوار المشترك بين الرؤى المختلفة. وربما يحتاج السوريون، كما احتاج إسماعيل، إلى إيجاد توازن لا ينفي الماضي ولا يستنسخه، بل يضيء الحاضر بفهم أعمق، فالقناديل التي انكسرت في السنوات الماضية، لن تعود كما كانت، أبدًا. لكن يمكن إشعال قنديل جديد، أكثر وعيًا وعقلانية وأكثر رحمة.
اقرأ أيضاً: الشرع يرفض التطبيع المباشر.. لا تثقوا بي وحاسبوني إن أخطأت!
اقرأ أيضاً: من هي سمة محمد عبد ربه المستشارة الأولى لوزير الاقتصاد؟