مع مرور الزمن وتغير ملامح الحياة اليومية، لم تعد المناسبات كما عهدناها، حتى الأعياد التي كانت تنتظر بشوق، وتحمل في تفاصيلها كل ما هو دافئ وإنساني، بدأت تتغير تدريجيًا تحت وطأة نمط الحياة المعاصر وهيمنة التكنولوجيا على المشهد الاجتماعي.
في الماضي، كانت منازلنا في أيام العيد تمتلئ بالضحكات الصادقة، وتزدحم بأصوات الزوار والأقارب والجيران الذين يأتون دون موعد، وتفوح فيها روائح الحلويات والطعام المنزلي التي تعد خصيصًا لهذه الأيام المباركة، والتي كانت تحضر بكميات تكفي لإكرام كل من يمر.
أما اليوم، فقد خفتت تلك الأصوات الدافئة ليحل محلها صدى إشعارات الهواتف التي تفيض برسائل “عيد مبارك” المنسوخة والمكررة، واختزل الدفء الإنساني في صور وستوريات عابرة على منصات التواصل الاجتماعي.
ورغم أن فرحة العيد ما تزال حاضرة، لكن سحرها القديم يبدو وكأنه يتوارى خلف الحداثة الرقمية، التي وإن سهلت التواصل، فإنها في كثير من الأحيان سلبته روحه ومكانته، وحولته إلى طقس منمق تؤدى طقوسه من خلف الشاشات.
قبل التكنولوجيا.، كان للعيد وجهٌ آخر
قبل ظهور التكنولوجيا الحديثة وانتشار منصات التواصل الاجتماعي، كانت المعايدة في سوريا مرتبطة باللقاءات المباشرة والمبادرات الإنسانية التي تعبر عن صدق المشاعر.
وكان التواصل وجهًا لوجه هو السمة الأساسية للعيد، حيث تتوالى زيارات الأقارب والجيران فور انتهاء صلاة العيد، ويتبادل الجميع التهاني على أنغام الضحك ورائحة القهوة الممزوجة بعطر الحلويات مثل كعك العيد والمعمول.
وكانت هذه الزيارات أكثر من مجرد طقس احتفالي؛ فهي تمثل فرصة حقيقية لتجديد الروابط الاجتماعية، ورؤية الوجوه، ومشاركة الفرح بكل تفاصيله.
أما الأطفال، فكانوا يعيشون جزءًا مميزًا من العيد حين يتنقلون بين البيوت ليجمعوا العيديات بأيديهم الصغيرة، بينما يلتقي الكبار في مجالس تمتد طوال اليوم، تملؤها الحكايات وذكريات الماضي.
ولم يكن التواصل محدودًا بالمنازل فقط، بل كان يمتد إلى المنتزهات والحدائق العامة، حيث كانت العائلات تخرج لتستمتع بوقت مشترك بعيدًا عن ضغوط الحياة، وتحيي روح المجتمع من خلال التفاعل الحقيقي بين أفراده.
وفي حالات البعد الجغرافي، لم تكن المسافات حاجزًا أمام المحبة، بل كانت تتحول إلى رحلة مقصودة، فالعيد بدون لقاء الأهل لا يكتمل.
اليوم، أصبحت التهاني غالبًا إلكترونية سريعة، ترسل دفعة واحدة عبر رسائل وتطبيقات الهاتف، دون الحاجة إلى لقاء واقعي أو حتى محادثة حقيقية، فما كان يومًا احتفاءً حقيقيًا بالعلاقات الإنسانية، صار مجرد إشعار يظهر على الشاشة، ثم يختفي سريعًا بلا أثر.
اقرأ أيضاً: ضيافة العيد في دمشق.. تقاليد عريقة برائحة الياسمين
ملابس العيد: من السوق الحيوي إلى المتجر الرقمي
ومن ملامح التبدل التي طالت تقاليد العيد أيضًا، نجد تغير طقوس شراء الملابس، من تجربة اجتماعية نابضة بالحياة، إلى فعل فردي صامت خلف الشاشات.
في سوريا، لم تكن ملابس العيد مجرد زينة خارجية أو أقمشة تلبس لمناسبة سعيدة، بل كانت جزءًا من الروح الاحتفالية نفسها. لكن الزمن حوّل هذا الطقس المبهج إلى عبء مالي لا يستهان به، فمع ارتفاع التضخم وغلاء الأسعار، وتغير أنماط الاستهلاك تحت تأثير العولمة والتكنولوجيا، أصبحت ملابس العيد تنظر إليها بعين القلق أكثر من الفرح.
وأصبحت مهمة شرائها تقتضي حسابات دقيقة، وغالبًا ما يتم تأجيلها أو استبدالها بخيارات أقل تكلفة، في ظل أولويات تتركز على الاحتياجات الأساسية كالمواد الغذائية.
ويقول أحمد، أحد البائعين في سوق الحميدية منذ الثمانينيات: “كان العيد يعني ازدحام الأسواق، الناس يبحثون عن قطعة مميزة، يتفاوضون، يتبادلون الحديث، وكأن الشراء جزء من طقوس العيد نفسها، اليوم، تغير كل شيء، التسوق أصبح مجرد نقرات على مواقع إلكترونية مثل (شي إن وتيمو وغيرها)، والملابس تصل إلى المنازل دون أن يشعر أحد بنكهة العيد الحقيقية.”
أما هاشم، بائع الإكسسوارات لأكثر من عقدين، فيلاحظ هذا التحول بقلق، ويقول: “في الماضي، كانت النساء يحرصن على اختيار زينة العيد بعناية، كأنها جزء لا يتجزأ من الاحتفال، اليوم، أصبحت هذه التفاصيل هامشية أمام مخاوف الأسعار، الناس يفكرون في الضروريات قبل الجمال، والفرحة لم تعد كما كانت”.
ويرى أبو سعيد، بائع الأحذية، أن التكنولوجيا لم تغير فقط طريقة الشراء، بل أثرت أيضًا على روح العيد نفسها، ويقول: “الأسواق كانت قليلة لكنها كانت تنبض بالحياة، اليوم زادت المحلات، لكنها خاوية من الحماس.”
ويضيف:”مع تقلص الميزانيات وتغير الأولويات، لم يعد شراء الملابس طقسًا احتفاليًا كما كان، بل تحول إلى حسابات دقيقة، بين ما يمكن شراؤه وما يجب التخلي عنه لصالح احتياجات أكثر إلحاحًا، وهكذا، لم يتغير العيد وحده، بل نحن أيضًا، نحاول التأقلم مع واقع يفرض نفسه، بين الذكريات التي تملؤنا والواقع الذي يفرض إيقاعه الجديد”.
جمعات العيد والعيدية: من الذكريات الدافئة إلى الواقع الرقمي
لم يكن العيد بالنسبة للأطفال مجرد لحظة فرح عابرة، بل رحلة ممتدة تبدأ فور انتهاء صلاة العيد، حين يخرجون في مجموعات صغيرة، يتسللون بين البيوت، يطرقون الأبواب واحدًا تلو الآخر، آملين أن تفتح أيادي الكرم أبوابها، وتضع في أيديهم بعض القطع النقدية، التي تحمل معها طعم الاحتفال الحقيقي، ودروسًا في العطاء، والمشاركة، والشعور بالانتماء.
وفي نهاية اليوم، يعود كل طفل إلى بيته حاملًا “كنزه” الصغير، يفرغه على الأرض ويعده بفخر، كمن حقق إنجازًا عظيمًا؛ لكن الفرحة لا تكتمل، فسرعان ما تختفي تلك الأموال بعد الجملة الشهيرة من أحد الوالدين: “أعطني عيديتك خبيلك ياها”.
ولم يكن العيد حكرًا على الأطفال وحدهم، فالزيارات العائلية أيضاً كانت روح العيد ومصدر بهجته، فكان كل منزل يفتح أبوابه لاستقبال الضيوف، وكل ضيافة تحضر بعناية، وكل لقاء عائلي يتحول إلى مشهد صادق من الفرح والضحكات والحكايات.
وكان بيت الجد أو الجدة قلب هذه الروح، حيث يجتمع أبناء العمومة والأخوال، ويختلط الكبير بالصغير، فيتحول البيت إلى ساحة مفتوحة من الحياة، هناك، لا مكان للغربة، ولا مساحة للغريب، فالجميع ينتمي، والجميع يضحك، والجميع يتقاسم التفاصيل التي لا تنسى.
ربما لم يكن سبب القطيعة التكنولوجيا وحدها، بل نحن الذين بدأنا ننسى كيف نعيش اللحظة، وكيف نمنح اللقاءات معناها، وكيف نبني العلاقة من جديد مع من نحب.
اقرأ أيضاً: الجزرية.. أشهر حلويات الساحل
هل ضعنا في طريق التكنولوجيا؟
لماذا نبذل الجهد في زيارة أحد إن كان بإمكاننا إرسال رسالة جماعية؟ ولماذا نضحك حقيقة إذا كان بإمكاننا وضع رمز تعبيري على منشور؟ حتى الطعام لم يعد يقدم إلا بعد أن يوثق بدقة، في زوايا محسوبة وإضاءة مدروسة، كأن العيد لم يعد من أجل الذكريات، بل من أجل الإعجابات.
فاليوم، لا يخلو بيت من جلسة تصوير منظمة، أزياء مختارة بعناية، وخلفيات مزينة تهيأ بعناية مسبقة، كلها تلتقط قبل أن تبدأ الفرحة حقًا، ينشر المنشور، تضاف الوسوم، وتفيض التعليقات.
لكن ماذا عن الإحساس الحقيقي؟ هل هذا الكم من الصور سيحمل ذكريات حقيقية، أم أنها ستتحول مع الوقت إلى ملفات مهملة في درج رقمي لا أحد يعود إليه؟ هل سننظر لاحقًا إلى هذه الصور بشغف وحنين، أم سنمر عليها مرور العابر الذي لا يتذكر حتى اللحظة التي التقطت فيها؟
المفارقة الكبرى أن وسائل التواصل التي قربت بين الناس شرق الأرض وغربها، جعلتنا نحن، في مجالسنا الخاصة، أكثر بعدًا عن بعضنا البعض.
ففي نفس الغرفة، قد يجلس الأخوة والوالدان، كل منهم منغمس في هاتفه، يلتقط اللقطات، ينشر الصور، ويتفاعل مع غائب بينما يتجاهل من هو حاضر.
وبينما يفترض أن تقربنا التكنولوجيا، يبدو أنها أضافت بيننا طبقات من الزجاج والضوء، جعلت اللقاء الحقيقي أكثر ندرة، والكلام الصادق أكثر تكلفًا، والتواصل أكثر برودًا.
في الختام، ربما، آن الأوان لنضع الهواتف جانبًا، وننظر في عيون بعضنا البعض؟ هل يمكننا أن نعيد للعيد معنى اللقاء، وأن نحييه بما كان عليه من دفء وتواصل حقيقي؟ أم أنه سيظل مجرد ظل يمر على منصات التواصل، ولا يسكن القلوب كما كان؟