الكاتب: أحمد علي
بين دفاتر الحرب ومذكرات العابرين فوق ركام الدول، تسجّل سوريا اليوم فصلاً جديداً لا يقلّ إثارة عن أعوام النار والدم. مشهد معقّد تتداخل فيه خرائط الجغرافيا مع ألغام التاريخ، وتطرح فيه الدولة الجديدة سؤالاً صعباً على نفسها وعلى العالم وعلى الشعب السوري: هل يمكن لجندي أجنبي حمل البندقية يوماً في وجه النظام السوري السابق، أن يتحوّل إلى ركن من أركان جيش وطني جديد ناشئ؟ ففي قرارٍ مفاجئ وخارج عن السياق السابق له، أعلنت الولايات المتحدة «تفهّمها» لدمج آلاف المقاتلين الجهاديين الأجانب، بمن فيهم الإيغور، ضمن فرقة رسمية تابعة للجيش السوري الجديد، وسط تباين حاد في المواقف وتحفّز في الميادين السياسية والدبلوماسية.
يتناول هذا التقرير من «سوريا اليوم 24» تفاصيل القرار، أبعاده، وتجاذباته، كما يستعرض آراء بارزة من المشهد السوري حول ما إذا كان هذا الدمج خطوة نحو الاستقرار أم لا؟!
أمريكا توافق على دمج المقاتلين الأجانب في الجيش السوري
وافقت الولايات المتحدة على خطة تقضي بدمج آلاف المقاتلين الجهاديين الأجانب السابقين في صفوف المعارضة ضمن الجيش الوطني السوري الجديد، شرط أن يتم ذلك بشكل شفاف، وفق ما أكده مبعوث الرئيس الأميركي دونالد ترامب، توماس باراك (Thomas Barrack).
ويمثل هذا تحول في الموقف الأميركي، إذ كان معلناً اعتراض أمريكا على إشراك المقاتلين الأجانب في المؤسسات السورية، وكانت واشنطن تطالب باستبعادهم بالكامل، وهذا الموضوع كان من بين الشروط الخمسة التي أعلنتها أمريكا قبيل رفع العقوبات والتي لاحقاً توسعت لتصبح ثمانية شروط. إلا أن زيارة ترامب الأخيرة إلى الشرق الأوسط غيّرت من مقاربة الولايات المتحدة تجاه سوريا كما يبدو الأمر.
وفي تصريح لمراسل وكالة «رويترز»، قال باراك، وهو السفير الأميركي لدى تركيا والمبعوث الخاص الجديد لسوريا، «أستطيع القول إن هناك تفاهماً، بشرط الشفافية». وأضاف أن إبقاء هؤلاء المقاتلين داخل مشروع الدولة، لا خارجها، هو خيار أفضل، خاصة وأن العديد منهم «موالون جداً للإدارة السورية الجديدة» على حدّ تعبيره.
وتنص الخطة السورية، بحسب ما كشفه ثلاثة مسؤولين في وزارة الدفاع السورية، على تشكيل فرقة جديدة في الجيش تحمل اسم «الفرقة 84»، وتضم نحو 3500 مقاتل أجنبي، غالبيتهم من الإيغور القادمين من الصين ودول مجاورة، إلى جانب مجندين سوريين.
من المعارضة إلى الجيش الوطني
شكل المقاتلون الأجانب، وخصوصاً أولئك المنتمين إلى هيئة تحرير الشام (HTS)، نقطة خلاف حادة.
كان بعض هؤلاء المقاتلين في تنظيم القاعدة سابقاً، والتحق بعضهم بمجموعات إرهابية مثل تنظيم الدولة الإسلامية (داعش) لاحقاً، فيما انضم آخرون إلى هيئة تحرير الشام، وأظهروا انضباطاً عسكرياً وخبرة ميدانية، بل شكّلوا العمود الفقري لوحدات النخبة فيها. ومنذ عام ٢٠١٦، خاضوا مواجهات ضد تنظيم الدولة وأجنحة أخرى من القاعدة، بعد انفصال الهيئة عنها.
مخاوف صينية وتحذيرات دولية
يمثل المقاتلون الإيغور جزءاً من حزب تركستان الإسلامي، وهو تنظيم تصنفه الصين على أنه إرهابي. وقد عبّرت بكين عن قلقها المتزايد من تنامي نفوذ الحزب داخل سوريا، وفق ما أكده مسؤول سوري ودبلوماسي أجنبي. وقالت متحدثة باسم وزارة الخارجية الصينية: «تأمل الصين أن تعارض سوريا جميع أشكال الإرهاب والقوى المتطرفة، استجابة لمخاوف المجتمع الدولي».
بدوره، صرّح عثمان بغرا (Osman Bughra)، المسؤول السياسي في حزب تركستان الإسلامي، في بيان مكتوب لـ«رويترز» بأن التنظيم قد تم حله رسمياً واندماجه في الجيش السوري. وأكد أن «التنظيم يعمل الآن بالكامل تحت سلطة وزارة الدفاع، ويلتزم بالسياسة الوطنية، ولا يحتفظ بأي علاقات مع أطراف خارجية أو جماعات أخرى».
اقرأ أيضاً: تجنيس المقاتلين الأجانب.. تحديات كبرى ورهان محفوف بالمخاطر!
تباين في الرؤى حول دمج المقاتلين الأجانب
أثار الإعلان عن دمج المقاتلين الجهاديين، بمن فيهم الأجانب، في صفوف الجيش السوري الجديد، ردود فعل متباينة في الأوساط السورية. فبينما يرى رئيس حركة البناء الوطني، أنس جودة، أن هذه الخطوة تمثل «مؤشراً خطيراً» على طبيعة الدولة المزمع فرضها تحت شعار «الانتقال» أو «الاستقرار»، يؤكد الكاتب والصحفي السوري بلال سليطين على ضرورة التعامل الواقعي مع الملف بوصفه «أحد التحديات المعقدة التي تتطلب حلولاً شاملة».
فيما عالج الباحث السياسي حسن دغيم الأمر من منطلق «الإرث الثقيل وتعقيدات المسار الثوري» بعد أن كان قد وصفهم في لقاء خاصّ على قناة الإخبارية ضمن برنامج «على الطاولة» بأنهم «أبطال الحرية» مستذكراً «غيفارا» و«ديغول» ومعترضاً على إطلاق وصف «أجانب» لكون هؤلاء المقاتلين قاتلوا من أجل السوريين وضحوا بدمائهم من أجلهم على حدّ قوله.
جودة انتقد في تصريح عبر صفحاته الرسمية على «فيسبوك» ما وصفه بـ «هندسة جيش بعقيدة جهادية سلفية طاغية»، معتبراً أن الجيش الجديد يُبنى على «الولاء العقائدي» لا الوطني، ويقصي فئات واسعة من السوريين، من العلمانيين والأقليات، وصولاً إلى من لا ينخرط في «الهوية الدينية المقاتلة». وأضاف: «أي مشروع لا يُبنى على شراكة متكافئة بين كل السوريين، هو مشروع سلطة لا دولة».
في المقابل، يرى سليطين أن دمج هؤلاء المقاتلين في مؤسسة رسمية هو خيار أقل كلفة من معاداتهم أو تركهم في فراغ عدائي، مشدداً على أن مسؤولية الدولة تكمن في إيجاد أطر قانونية ووطنية «تحفّز على الشراكة وتحوّل الجميع إلى مساهمين إيجابيين». وأشار إلى أن الأزمة السورية ذات طبيعة مركبة، لكن «خلق مشروع وطني جامع هو أولوية لا بد منها».
ومن جانبه، اعتبر الباحث السياسي حسن دغيم أن سوريا تحتاج إلى «فرصة حقيقية» لمواجهة التحديات التي تراكمت عبر سنوات، سواء أكانت إرثاً ثقيلاً خلفه النظام السابق من دمار وخراب، أو كانت نتيجة تعقيدات المسار الثوري وما صاحبه من فصائل ومقاتلين.
وأوضح دغيم أن المجتمع السوري تاريخياً كان منفتحاً على التنوع، وضرب مثالاً بمدينة دمشق، التي استقبلت عبر قرون مقاتلين ومهاجرين من جنسيات متعددة كالشركس، والتركمان، والأكراد، والألبان، إضافة إلى أحياء كـ «حي المغاربة» و«حي المقدسيين»، حيث ساهمت الظروف السياسية والعسكرية في استقدامهم. واعتبر أن هذه الظاهرة ليست حصرية بسوريا، بل عرفتها مناطق عدة حول العالم مثل البلقان وأوروبا، ولفت إلى أمثلة معاصرة كـ «الفرقة الأجنبية» في الجيش الفرنسي و«الفيلق الدولي» في أوكرانيا.
ورغم إقراره بتاريخ سوريا في استيعاب ضيوفها، شدّد دغيم على أن السياق الحالي يفرض الحاجة إلى إطار قانوني وتشريعي واضح، قائلاً: «نحن بحاجة إلى بيئة تشريعية متعددة المسارات». وأكد أن قضية المقاتلين الأجانب لا يمكن حلّها فقط بإدماجهم في مؤسسات الدولة، بل تتطلب مقاربة شاملة تشمل كل مفاصل الدولة، بدءاً من الجيش، مروراً بالإدارات المدنية، ووصولاً إلى المؤسسات الاقتصادية والأمنية.
وأشار إلى أن كثيراً من هؤلاء المقاتلين يعيشون مع عائلاتهم في مناطق مثل محافظة إدلب، وأنهم مندمجون فعلياً في المجتمع، في المساجد، والمدارس، والأسواق. لكنه استدرك بالقول: «رغم هذا، لا بد من تشريعات قانونية وإدارية تفتح الطريق أمام إعادة دمجهم ضمن مشروع وطني حقيقي».
دوافع القرار وسؤال الهوية!
هذا وفسر البعض دوافع اتخاذ مثل هذا القرار من قبل وزارة الدفاع السورية والموافقة الأمريكية، من باب أنه يخدّم الحرب المشتركة بين الطرفين ضدّ «داعش» ولا يمنح فرصة للأخيرة بأن تتلقف آلاف المقاتلين بالمجان. يقول خبير الجماعات الجهادية، عباس شريفة، المقيم في دمشق، إن المقاتلين الذين جرى اختيارهم للانضمام إلى الجيش قد «أُخضعوا لتصفية أيديولوجية وأظهروا ولاءً للقيادة السورية»، ويضيف: «إذا تخلّيت عنهم، فإنهم سيكونون فريسة لتنظيم داعش أو جماعات متطرفة أخرى».
ختاماً، قد تتعدد المواقف وتتباين التقديرات حول جدوى دمج المقاتلين الأجانب في الجيش السوري الجديد، لكن التحدي الأعمق الذي يلوح خلف هذه الخطوة ليس أمنياً ولا سياسياً فحسب، بل هو تحدٍ للهوية السورية نفسها، لأن مستقبل سوريا يقاس بقدرتها على صياغة هوية وطنية تستوعب أبناءها جميعاً دون استثناء، هوية تُعبّر عن كل السوريين، ولها تعبيراتها الملموسة في جميع مؤسسات الدولة وهياكلها…
اقرأ أيضاً: أربعة احتمالات لمستقبل مقاتلي سوريا الأجانب!