سنوات طويلة من الحرب والصراعات رسمت ملامح مأساة سورية شملت كل النواحي، السياسية والاقتصادية والاجتماعية والإنسانية، وكأن فناناً عبثياً سوداوياً يمسك بفرشاته المضرجة بالدماء والدموع والغبار، ومع كل ضربة منها على لوحته يشكّل صورة جديدة من الألم والمعاناة، وتظهر أمام البلاد كارثة جديدة، وكأنه ينقصها… ومع كل صيف حارق وموسم مطري شحيح، تطفو على سطح اللوحة القاتمة أزمة جديدة – قديمة: إنها أزمة المياه، إحدى أخطر الأزمات التي تهدّد شريان الحياة لملايين البشر، تلقي هذه الأزمة بظلالها الثقيلة على السوريين، تهدّد أمنهم الغذائي ومستقبلهم، وتجعلنا نتساءل في كل مرة، هل سنصل حقاَ لليوم الذي نشتهي فيه نقطة ماء؟
في السطور التالية، سنتحدث عن أسباب أزمة المياه المتفاقمة في سوريا، والتحديات التي تؤججها، وحال سوريا اليوم وفي المستقبل إن لم تحلّ هذه المشكلة الكارثية، والحلول التي نأمل جميعاً أن نرى طرف خيط منها، بعيداً عن الخطط على الورق والخطابات الواعدة.
العجز المائي
بداية وقبل الخوض في صلب الموضوع، لا بد من معرفة أن سوريا اليوم تعاني من عجز مائي يقدّر بنحو 1.1 مليار متر مكعب، وسط مؤشرات متزايدة على تفاقم الأزمة خلال السنوات القادمة، بحسب التقديرات الرسمية، ويعود هذا العجز إلى انخفاض معدلات الهطولات المطرية، استمرار موجات الجفاف وتوسع رقعة التصحر.
وتوضح البيانات المحلية أن حصة الفرد من المياه في سوريا باتت تقلّ عن خط الفقر المائي العالمي البالغ 1000 متر مكعب سنوياً، ما يضع البلاد أمام تحديات متزايدة في تأمين احتياجات السكان من المياه، سواء للاستهلاك البشري أو الاستخدام الزراعي والصناعي.
وكانت دراسات دولية قد حذّرت من تصاعد خطر الجفاف على المستوى العالمي، مشيرةً إلى أن سوريا قد تشهد عجزاً مائياً أكثر حدة بحلول عام 2030، حيث تحتل حالياً المرتبة 31 عالمياً ضمن قائمة الدول الأكثر عرضة لخطر الجفاف مستقبلاً.
وتستمد سوريا مياهها العذبة بشكل رئيسي من نهر الفرات إلى جانب نهر دجلة، الذي ينبع من تركيا ويشكل شرياناً مائياً أساسياً يمتد عبر سوريا والعراق ويصبّ في الخليج العربي، إلا أن منسوب نهر الفرات شهد تراجعاً حاداً خلال العقدين الماضيين، ما انعكس سلباً على توفر المياه اللازمة للشرب والزراعة وتوليد الطاقة الكهرمائية.
وإضافة إلى الأنهار، تعدّ الينابيع الطبيعية، مثل نبع الفيجة بريف دمشق وينابيع القلمون والسويداء واللاذقية، مصادر مهمة لكنها محدودة، وتحتاج الزراعة البعلية للأمطار التي أصبحت موسمية ومتقلبة بسبب التغيرات المناخية، كما تعتمد سوريا على المياه الجوفية المستخرجة من الآبار، خصوصاً في المناطق الزراعية، لكنها تواجه استنزافاً متسارعاً نتيجة الاستخدام المفرط.
اقرأ أيضاً: الأمن الغذائي في سوريا.. هل الزراعة في مهب الريح؟!
إرث ليس حديث العهد
ومنذ عام 2000، أدى الضغط المتزايد على الموارد المائية، والتلوث وسوء إدارة المياه العادمة إلى تدهور بيئي كبير، وقد أوضحت دراسات عديدة أن السياسات المائية قبل عام 2011 فشلت في مجاراة الطلب المتصاعد على المياه، رغم أن نسبة كبيرة من السكان حينها كانت تحظى بإمدادات منتظمة، إذ كان 98٪ من سكان المدن و92٪ في المجتمعات الريفية يتمتعون بسبل موثوقة للحصول على المياه الصالحة للشرب.
لكن الواقع اليوم وبعد مرور ربع قرن مختلف تماماً، إذ لا تعمل سوى نصف شبكات المياه والصرف الصحي في البلاد، بحسب تقرير للجنة الدولية للصليب الأحمر في أكتوبر 2021، الذي قدّر تراجع كميات مياه الشرب المتاحة بنسبة تصل إلى 40٪ مقارنة بما كانت عليه قبل عقد،
كما أعلن كريستوف مارتن، رئيس بعثة اللجنة الدولية للصليب الأحمر في سوريا، أن ثماني منشآت رئيسية لمياه الشرب في البلاد تضررت بشدة بسبب الحرب، لافتاً إلى تدهورها على مدار عقد نتيجة غياب الصيانة ونقص الموارد وقطع الغيار
وفاقم زلزال شباط 2023 أيضاً في الوضع السيء، وألحق أضراراً كبيرة بالبنية التحتية المائية الضعيفة أساساً، ما زاد من تعقيد الصورة.
أسباب متشابكة لأزمة المياه في سوريا
تتعدّد الأسباب التي تقف خلف أزمة المياه في سوريا، وعلى رأسها التغيرات المناخية وما صاحبها من موجات جفاف وانخفاض معدلات الأمطار، والتي ضاعفت من الضغوط على الموارد المائية، ولمواجهة هذا النقص، لجأ العديد من السوريين خصوصاً في المناطق الزراعية، إلى حفر الآبار العشوائية دون رقابة أو تنظيم، ما تسبب في استنزاف طبقات المياه الجوفية وانخفاض مستوياتها إلى معدلات تنذر بالخطر، وزاد من تعقيد الوضع النمو السكاني والنزوح الداخلي، الذي رفع الطلب على المياه في وقت لا تقدر فيه البنية التحتية على تلبية الحاجات الأساسية.
كما برزت ظاهرة استخدام المياه كسلاح في الحرب من بين أهم الأسباب التي فاقمت أزمة المياه، إذ شهدت مناطق مثل الحسكة حالات متكررة من انقطاع المياه نتيجة الصراع بين القوات التركية وقوات سوريا الديمقراطية “قسد”، الأمر الذي عرّض أكثر من مليون مدني لخطر العطش، خصوصاً بعد سيطرة تركيا على محطة “علوك” في أكتوبر 2019، وتحويلها إلى أداة ضغط سياسي.
وفي الشمال السوري، كشفت صور أقمار صناعية نشرتها وكالة الفضاء الأوروبية عام 2021، انخفاضاً واضحاً في منسوب المياه في بحيرة الأسد وسدي تشرين والطبقة، وهو إنذار واضح بجفاف يهدد حياة مئات الآلاف، خاصة مع تدهور البنية التحتية وعدم إجراء الصيانة الكافية.
ويعدّ فقدان نسبة كبيرة من الكوادر الفنية والهندسية المختصة في تشغيل وصيانة شبكات المياه، نتيجة الهجرة أو الوفاة أو الاعتقال خلال سنوات الحرب من الأسباب الموثرة أيضاً، والتي شكّلت فجوة حادة في الكفاءة التشغيلية، بحسب تقديرات تشير إلى غياب ما بين 30 إلى 40% من هذه الكوادر.
وإلى جانب كل ذلك، تراجعت كميات المياه المتدفقة من تركيا عبر نهر الفرات، نتيجة بناء السدود والمشاريع المائية على الجانب التركي، وهذا أدى إلى تقليص حصة سوريا إلى مستويات خطيرة في بعض الفترات، بلغت 200 متر مكعب فقط في الثانية، وهو ما لا يكفي لتغطية الاحتياجات الزراعية والإنسانية الأساسية.
اقرأ أيضاً: مزارعو الحسكة بين أرض عطشى وأمل مفقود!
أزمة المياه في سوريا اليوم
تتصاعد أزمة المياه في سوريا يوماً بعد يوم…
ففي شمال شرقي سوريا
كانت “الإدارة الذاتية” قد حذّرت أمس الأربعاء، من تفاقم الأزمة في نهر الفرات بعد انخفاض منسوب مياه بحيرة السد بنحو ستة أمتار، وأوضحت أن قلة المياه الواردة من تركيا، إضافة إلى الأضرار التي لحقت بسد “تشرين” نتيجة الهجمات التركية، وتعطل ربطه بالشبكة العامة بسبب أعطال في شبكات التوتر العالي، فاقمت الوضع المائي والكهربائي في المنطقة.
كما زادت موجة الجفاف الاستثنائية هذا العام من الطلب على مياه الري والشرب، ما رفع نسبة التبخر في البحيرات إلى 250 متراً مكعباً في الثانية، وأدى إلى استنزاف المخزون الاستراتيجي لمياه بحيرة السد.
شمال غربي سوريا
تستمر معاناة مئات الآلاف في هذه المناطق خاصة سكان المخيمات الواقعة على الشريط الحدودي مع تركيا، فقد كانت المنطقة التي تضم نحو ستة ملايين نسمة نصفهم نازحون داخلياً، تعتمد في السابق على حكومة الإنقاذ لتقديم خدمات أساسية مثل الحصول على المياه والإشراف على عمل المنظمات الإنسانية، قبل أن يسقط نظام الأسد في 8 ديسمبر 2024.
اليوم، يشعر سكان المنطقة بالتهميش وتراجع الخدمات، خاصة منذ بداية العام الحالي بعد تعليق الولايات المتحدة برامج المساعدات الخارجية لمدة 90 يوماً، ثم إلغاء 83% من برامج التنمية، وكان من تداعيات ذلك توقف العديد من مشاريع المياه والإصحاح وترحيل النفايات.
هذا الوضع دفع الناس في المخيمات إلى شراء المياه من صهاريج خاصة بتكلفة أسبوعية تبلغ 600 ليرة تركية (حوالي 16 دولاراً أمريكياً)، وهو مبلغ يفوق قدرة العديد من العائلات النازحة.
اقرأ أيضاً: عواصف غبارية في سوريا والمنطقة.. ما هي وما تأثيرها على الصحة؟
دمشق
وتشهد العاصمة دمشق وضواحيها تراجعاً حاداً في منسوب المياه من نبع الفيجة، الذي يعد المصدر الرئيسي للمياه في المنطقة، إذ انخفض المنسوب إلى متر مكعب واحد، وسط توقعات بتفاقم الوضع في الصيف القريب، وقد تم اتخاذ بعض الإجراءات من المؤسسة العامة لمياه الشرب والصرف الصحي ذكرناها آنفاً في مقالنا عن التقنين المائي في دمشق.
ومع تفاقم الأزمة، دعت أصوات محلية إلى ضرورة تحرك الجهات المعنية لإصلاح وصيانة الآبار وشبكات نقل المياه، ووضع آليات عادلة للتوزيع والتقنين، إضافة إلى تحسين التغذية الكهربائية لمحطات الضخ من خلال خطوط معفاة من التقنين أو تركيب محطات طاقة شمسية لضمان استمرارية التزويد بالمياه.
اللاذقية
ومنذ سنوات طويلة جداً، تعاني محافظة اللاذقية، ريفاً ومدينة، من أزمة مياه مستمرة دون أن تلوح في الأفق أي حلول فعلية، ورغم تغيّر الإدارات وتكرار التصريحات التي ترجع المشكلة إلى ضعف الكهرباء أو تهالك محطات الضخ، سواء قبل سقوط النظام أو بعده إلا أن الواقع يبقى على حاله، بل يزداد سوءاً.
وقد تضاعفت معاناة المواطنين مع تفشّي ظاهرة تجارة المياه، ما جعل الحصول على المياه عبئاً مالياً إضافياً، ومع ذلك، لا تقدّم هذه الصهاريج حلاً حقيقياً، إذ أن معظمها يفتقر إلى شروط السلامة، إضافة إلى ذلك يعاني كثيرون من مشكلة عدم وصول المياه إلى الخزانات، ما يجعل عدد كبير من الناس يستخدمون “الدينمو” لتصل إلى خزاناتهم، فيحرمون غيرهم من وصول المياه، فضلاً عن التلوث الضوضائي الذي يحصل، ولو لوقت قصير، كون وضع الكهرباء سيء جداً كذلك.
اقرأ أيضاً: سوريا بعد الحرب.. القطاع الصحي مشلول والشعب يدفع الثمن!
تحديات وحلول
تواجه عملية إعادة إعمار قطاع المياه والصرف الصحي في سوريا تحديات معقدة، من أبرزها الدمار الواسع الذي لحق بشبكات المياه والصرف الصحي في العديد من المناطق، ما أدى إلى نقص حاد في المياه الصالحة للشرب وازدياد انتشار الأمراض المرتبطة بتلوث المياه.
كما يعقّد عدم الاستقرار الأمني عمليات إعادة الإعمار، ونقص التمويل أيضاً، إذ تتطلب إعادة بناء هذا القطاع الحيوي استثمارات ضخمة، بينما تواجه سوريا صعوبة في تأمين الأموال اللازمة لذلك في ظل الظروف الاقتصادية الحالية.
ولتجاوز هذه التحديات، لا بدّ من تبني مشاريع مياه مستدامة تعتمد على تقنيات حديثة مثل أنظمة تحلية المياه والري المتطور، إلى جانب تحسين إدارة الموارد المائية وتقليل الهدر، كما أن إشراك المجتمعات المحلية في التخطيط والإدارة، وتوسيع التعاون مع المنظمات الدولية والدول الصديقة للحصول على الدعم المالي والتقني، سيكون أمراً أساسياً لضمان استدامة هذه المشاريع.
جدير بالذكر أنه في أواخر مارس الماضي، كشف وزير الموارد المائية السابق، أسامة أبو زيد، عن رؤية شاملة تهدف إلى بناء مستقبل مائي أكثر استدامة لسوريا، وتتضمن هذه الرؤية تعزيز التعاون الإقليمي والدولي، وتوسيع استخدام التقنيات الحديثة، إضافة إلى العمل على تغيير أنماط الاستهلاك من خلال برامج توعوية وتعليمية.
وفيما يتعلق بتأهيل البنية التحتية للمياه، لفتت وزارة الموارد المائية إلى أن كلفة تأهيل شبكات توزيع مياه الشرب فقط تتراوح بين 500 و700 مليون دولار أميركي، وهو رقم كبير لبلد يعاني من تداعيات الحرب، وخزائن خاوية، واقتصاد متهالك، ورغم ذلك، لا يمكن التأجيل أو التساهل في معالجة أزمة نقص المياه، لأن توفير المياه هو أساس إعادة الإعمار والتنمية الزراعية والاقتصادية.
وبهذا، ومع استمرار الاستهلاك المتزايد وسوء إدارة الموارد والتغير المناخي المتفاقم، من المتوقع أن يصل عجز المياه في سوريا إلى 6.2 مليار متر مكعب سنوياً بحلول عام 2050! وإذا لم يتم اتخاذ إجراءات فعّالة اليوم، فإن البلاد ستواجه أزمة مائية حادة تهدّد الأمن الغذائي والمعيشي لملايين السوريين في المستقبل.
اقرأ أيضاً: هل نحتاج «الأطباء الحفاة» للتصدي لتحديات واقع القطاع الصحي في سوريا؟
https://www.enabbaladi.net/751543/%D8%A7%D9%84%D8%A5%D8%AF%D8%A7%D8%B1%D8%A9-%D8%A7%D9%84%D8%B0%D8%A7%D8%AA%D9%8A%D8%A9-%D8%AA%D8%AD%D8%B0%D8%B1-%D9%85%D9%86-%D8%AA%D9%81%D8%A7%D9%82%D9%85-%D8%A3%D8%B2%D9%85%D8%A9-%D9%85%D9%8A/?utm_source=chatgpt.com
https://www.icrc.org/ar/document/%D8%A3%D8%B2%D9%85%D8%A9-%D8%A7%D9%84%D9%85%D9%8A%D8%A7%D9%87-%D9%81%D9%8A-%D8%B3%D9%88%D8%B1%D9%8A%D8%A9-%D8%A8%D8%B9%D8%AF-10-%D8%B3%D9%86%D9%88%D8%A7%D8%AA-%D9%85%D9%86-%D8%A7%D9%84%D8%AD%D8%B1%D8%A8-%D9%85%D9%8A%D8%A7%D9%87-%D8%A7%D9%84%D8%B4%D8%B1%D8%A8-%D8%A3%D9%82%D9%84-%D8%A8%D9%86%D8%AD%D9%88-40%25
https://sfuturem.org/ar/me-bd-10-2-24
https://syriadirect.org/%D8%A7%D8%B3%D8%AA%D8%AC%D8%A7%D8%A8%D8%A9-%D8%B6%D8%B9%D9%8A%D9%81%D8%A9-%D8%A3%D8%B2%D9%85%D8%A9-%D8%A7%D9%84%D9%86%D9%81%D8%A7%D9%8A%D8%A7%D8%AA-%D9%88%D8%A7%D9%84%D9%85%D9%8A%D8%A7%D9%87-%D8%AA/?lang=ar
https://7al.net/2025/04/29/%D8%A3%D8%B2%D9%85%D8%A9-%D9%85%D9%8A%D8%A7%D9%87/hend/economy/
https://water.fanack.com/ar/publications/syrias-water-crisis-assessing-the-intersection-of-climate-change-and-geopolitical-interests/