سرجيلا المدينة المنسية

سوريا، البلد ذو الحضارة الغنية والمدن الأثرية التي تعتبر من أهم الوجهات السياحية في العالم. والتي تعكس تنوع ثقافي وتاريخي مميز عمره آلاف السنين، حيث هناك مدن أثرية منسية دخلت ضمن لائحة التراث العالمي، ومنها سرجيلا المدينة المنسية التي تقع في محافظة إدلب. تعد سرجيلا من أجمل المواقع التي لا تزال معالمها قائمة وتتصف بعمارتها الرائعة وأحجارها المنحوتة بدقة.

تاريخ سرجيلا

سرجيلا هي واحدة من القرى الأثرية الواقعة في شمال غرب سورية وقد بنيت المدينة في العام 473 م. تعتبر من أفضل مواقع المدن المنسية من حيث الحالة المعمارية. وسجلت في قائمة اليونسكو للتراث العالمي كجزء من القرى القديمة في شمال سورية وذلك في العام 2011.

وبدأ توطن السكان فيها منذ القرون الأولى للميلاد، حيث بلغت قمة تطورها وازدهارها مع انتشار الديانة المسيحية بين القرنين الرابع والسادس الميلاديين، فشهدت حركة عمرانية كبيرة عمت جميع المناطق والقرى.

وأشار الدليل السياحي موسى فليح إلى أن آثار سرجيلا والأبحاث ودراسة المعطيات التاريخية فيها قد قدمت صورة واضحة عن وضع الأرياف في سورية الشمالية في الفترتين الرومانية والبيزنطية، وأشار لوجود ارتباط وثيق بين المدن والقرى كافة التي شكلت وحدة متكاملة ذات أهمية اقتصادية اجتماعية ودينية.

اقرأ أيضاً: الآثار السورية: مسيرة طويلة من التهريب والتخريب

موقع سرجيلا

تقع سرجيلا شرق كفر البارة في وسط جبل الزاوية في منخفض وادٍ إلى الجنوب من مدينة إدلب على الطريق الواصل إلى معرة النعمان.

وتبعد عن كفر البارة حوالي 3,5 كم، تعتبر أحد القرى الأثرية في الهضبة الكلسية، المحفوظة بشكل جيد. وتعطي صورة عن وضع الأرياف في سورية الشمالية خلال الفترتين الرومانية والبيزنطية. تعتبر سرجيلا جزءاً من الهضاب المتموجة التي تتخللها الشقوق وتتناوب على سطوحها المساحات الصخرية مع الأراضي الصالحة للزراعة وهي محرومة من الينابيع ولكنها تروى بسخاء من مياه الأمطار في الشتاء.

وأوضح فليح أن موقعها يعتبر من أجمل المواقع الأثرية وإحدى المدن المنسية المنتشرة في المنطقة المسماة الكتلة الكلسية، وتسميتها سريانية الأصل وتعني نور الإله، وتعتبر من أفضل مواقع المدن المنسية من حيث الحالة المعمارية، وتقع إلى الجنوب من إدلب في منطقة جبل الزاوية.

اقرأ أيضاً: تدمر بين أنقاضها: ذاكرة حجرية تبحث عن حياة جديدة!

أهميتها وأهم ما يميزها

تشتهر بمعاصرها ومدافنها السطحية ذات النقوش الخلابة والتي تعود إلى القرن الرابع وحتى السادس الميلاديين، كما تحوي العديد من الأبنية السكنية والكنائس والحمامات والقصور ومعاصر الزيت والقبور التي تم بناءها وفق نمط واحد تقريباً.

غالباً ما كانت أبنيتها ذات طابقين ومختلفة من حيث سعتها وزخرفتها باختلاف ساكنيها وفيها كنيستان استخدمتا للعبادة أثناء الفتح الإسلامي.

عرفت كذلك بأندرونها الذي كان يستخدم كدار للضيافة ثم تحول إلى مكان لعقد الاجتماعات وحل الخلافات في القرية والذي يعود للقرن الخامس الميلادي، ويعتبر بمثابة بناء عام لأنه لا يوجد له فسحة سماوية، الطابق الأرضي منه أحياناً يكون إسطبل أو يكون مكاناً لاستضافة المسافرين الذين يأتون لزيارة الحمام.

وتشتهر بحمامها كامل المعالم بأقسامه المختلفة، وقد بني عام 473 م. يتألف من صالة كبيرة في الشمال وسلسلة من صالات أصغر في الجنوب، ويوجد من الناحية الجنوبية من الخارج خزان كبير محفور في الصخر ومغطى ببلاطات حجرية. الصالة الكبيرة عبارة عن مشلح ومكان للاجتماع وفي طرفها الغربي شرفة محمولة على أعمدة ما زالت قواعدها باقية، وكانت الأرضية مغطاة بالفسيفساء وهي تتضمن كتابة تشير إلى عام 473 م، حيث عمد قروي اسمه جوليانوس إلى بناء هذا الحمام من أجل مجد مقاطعته.

تتألف الغرف المتصلة من الصالة الباردة وملحقاتها (دوش ومرحاض) وتنفتح على الغرفة المتوسطة الحرارة أي الوسطاني في الحمام العربي وبعد ذلك نصل إلى الغرفة الحارة التي ترتكز بلاطات أرضيتها على طبقات من القرميد، ويمر تحتها الهواء الساخن. وفي الصالة المجاورة يوجد بيت النار والمغطس، الغرف التالية فهي عبارة عن مدخل للعمال ومخزن للوقود. أما خزان الماء فكان مغطى ببلاطات مرتكزة على أقواس كبيرة وسعة هائلة تتجاوز حاجة الحمام.

أما البيوت السكنية المركز الأهم وهي مبنية على نمط واحد ومؤلفة من ثلاثة عناصر أساسية: بناء للسكن والعمل، فسحة سماوية، وسور يحيط بهذه الفسحة.

بناء السكن والعمل يتألف من غرف مبنية على مستويين الأول الأرضي وفوقه طابق ثاني، وتتجاور هذه الغرف على خط مستقيم أو زاوية قائمة، ولهذه البيوت سقف ذو ميلين ورواق مغطى وفي الطابقين.

كانت غرف الطابق الأرضي مخصصة للغرف العملية: كالمخازن والاسطبلات ومعاصر الزيت. وغرف الطابق العلوي كانت للسكن. وكان الرواق معبراً يسمح بالمرور بين الغرف الطابقية أو المتجاورة، وتفتح كل الغرف على الفسحة السماوية ولا يستطيع الزائر الوصول إلى الغرف إلا من خلالها.

توجد أقدم البيوت عند الوادي عند ابتداء السفوح، وتتميز الغرف والفسحة بأبعادها الصغيرة كما أن نوعية البناء فيها بدائية، ويعود أقدم هذه البيوت إلى نهاية القرن الثاني الميلادي.

وكان سكان المدينة المنسية من الفلاحين يطبقون اقتصاد الاكتفاء الذاتي بدمج الزراعة مع تربية المواشي وأحياناً على نطاق أصغر بزراعة الزيتون وصناعة الزيت.

كذلك هناك البيوت الكبيرة المبنية بأحجار بسيطة قائمة ومربعة الزوايا تزن الواحدة منها بضع مئات من الكيلوغرامات المرصوفة بدون ملاط، وتعود إلى القرنين الخامس والسادس الميلادي. يصل ارتفاعها إلى ثمانية أو عشرة أمتار أي حتى مستوى السقف، كما تتحلى الواجهات بحلية معمارية جميلة.

لسرجيلا أهمية بالغة كونها تقدم لنا فكرة عن أحوال الريف البعيد في سورية الرومانية البيزنطية وتشير إلى أن هذا الريف كان يقطنه فلاحون نشطون ومبدعون ويتكلمون اللغة السريانية ويعرفون اليونانية، وتُظهر لنا الناحية الاقتصادية والاجتماعية لسكان المدينة المنسية قديماً، حيث وجد فيها فلاحون أحرار وملاك أراضي استطاعوا أن يصلوا إلى الغنى على الرغم من الضرائب الباهظة، وقد اعتنق سكانها المسيحية بعد أن كانوا وثنيين، ومن ثم اعتنقوا الإسلام.

ختاماً، سرجيلا تعكس واقع الحياة في الريف البعيد في سوريا وتعبر عن التاريخ الروماني والبيزنطي، وتعد المدينة المنسية نافذة على النشاطات الاقتصادية والاجتماعية التي كان يمارسها السكان في تلك المنطقة.

اقرأ أيضاً: حلب الشهباء: الواجهة السياحية وقلب الاقتصاد السوري