الكاتب: أحمد علي
في الوقت الذي كانت فيه أنقرة تتأهب لمراقبة مؤشرات اندماج «قسد» ضمن الجيش السوري بعيون يقظة، جاءت تصريحات مظلوم عبدي لتلقي حجراً كبيراً في مياه الاتفاق الراكدة. فبين دعوات دمشق لضم الفصائل المسلحة وهيكلة مؤسسة الدفاع، واتهامات الرئيس التركي رجب طيب أردوغان لـ «قسد» بالمماطلة، يبقى سؤال اللحظة: هل يُكتب لخطوات الاتفاق أن ترى النور، أم أن طريق الدمج طويلٌ قد لا ينتهي إلا بعد سنوات من التوتر والصراع والتفاوض؟
من هنا تنطلق خيوط هذا المقال الموسّع في «سوريا اليوم 24»، والذي يستعرض تطورات الملف بين «قسد» ودمشق، في ظل ضغط تركي متصاعد ومهلة انتهت دون نتائج معلنة من وزارة الدفاع السورية.
مظلوم عبدي: لا دمج لـ «قسد» دون ضمانات سياسية
في حديثه مع قناة «شمس»، وضع قائد قوات سوريا الديمقراطية (قسد)، مظلوم عبدي (Mazloum Abdi)، النقاط على الحروف حين أعلن أن الاتفاق مع الرئيس السوري الانتقالي أحمد الشرع لا يزال قائماً، لكنه مقيّد بعقبات جوهرية.
أوضح عبدي أن أي تحول سياسي جاد يتطلب «ضمانات دستورية» تحمي حقوق مكونات شمال شرق سوريا، وعلى رأسهم الكُرد، مشدداً على أن مطلب «الفيدرالية» تم تجنبه عمداً في الاتفاق مع دمشق، تجنباً لحساسية السلطة الجديدة تجاه وحدة البلاد على حد قوله.
وركز في حديثه على أن مطالب «الإدارة الذاتية» لا تتعلق بالانفصال، بل تهدف إلى حكم محلي حقيقي، مع مشاركة فعلية في إدارة شؤون المنطقة، مشيراً إلى أن بعض التقدم تحقق بالفعل، خاصة فيما يتعلق بتثبيت وقف إطلاق النار.
الدمج مؤجل لسنوات.. و«قسد» ليست في حرب مع تركيا
في معرض حديثه، لم ينفِ عبدي أن ملف دمج «قسد» ضمن الجيش السوري مطروح على الطاولة، لكنّه أكد أنه «عملية معقدة قد تستغرق سنوات»، نظراً لأنها مشروطة بهيكل سياسي واضح يعترف بـ «اللامركزية الإدارية» و«الحقوق الثقافية للكرد» ومكونات المنطقة.
عبدي شدد على أن «الدمج» يجب ألا يكون شكلياً، بل يجب أن يُبقي «قسد» كقوة منظمة ضمن الجيش السوري الجديد، رافضاً أي عودة إلى «ما قبل الثورة».
وفي سياق علاقات «قسد» الإقليمية، نفى عبدي وجود أي تواصل مع الاحتلال الإسرائيلي، مؤكداً أن قواته لا تسعى لأي اصطفاف خارجي، وأن الأولوية هي الحفاظ على حسن الجوار، خاصة في ظل هدنة مؤقتة مع أنقرة مستمرة منذ أكثر من شهرين.
أردوغان يهاجم «قسد»: مماطلة في تنفيذ الدمج
على الجانب الآخر، جاءت تصريحات الرئيس التركي رجب طيب أردوغان (Recep Tayyip Erdoğan) صريحة وهجومية، متهماً «قسد» باستخدام «تكتيكات التسويف» في تنفيذ التفاهم المسبق مع دمشق بشأن اندماجها العسكري.
وأردوغان، الذي تحدّث من أذربيجان، شدّد على أن بلاده لن تقبل أي صيغة فدرالية في سوريا، مكرراً أن «قسد» يجب أن تُلقي السلاح وتنضم للجيش السوري النظامي الجديد، وهو ذات الموقف الذي تبناه وزير الخارجية التركي هاكان فيدان (Hakan Fidan) في وقت سابق، والذي أكد عبره أن أنقرة تراقب الملف بدقة ولن تقبل بأي تشكيل مسلح خارج مؤسسة الجيش.
اقرأ أيضاً: تحت المجهر: حول ماذا دار الحديث بين «قسد» وفرنسا في أربيل؟!
ماذا بعد انتهاء مهلة وزارة الدفاع السورية؟
من جهتها، كانت وزارة الدفاع السورية المؤقتة قد حددت مهلةً مدتها عشرة أيام انتهت فعلياً في 18 أيار/مايو، ودعت خلالها ما أسمته «المجموعات العسكرية الصغيرة» للاندماج ضمن هيكلية الوزارة.
وبينما اعتبر البعض أن المهلة تشمل قسد، جاءت تصريحات وزير الدفاع مرهف أبو قصرة لتبدّد الغموض قبل ساعات من انتهاء المهلة، فقد أشار إلى التحاق بعض الفصائل الصغيرة، مشيراً إلى أن المهلة لم تكن تشمل «قسد» محيلاً هذا الملف إلى موقع آخر تجري فيه العمليات الخاصة به، في إشارة إلى الاتفاق الموقع في آذار ما بين قائد قسد مظلوم عبدي والرئيس أحمد الشرع.
وفي مقابلة تلفزيونية مع قناة الإخبارية السورية، أوضح أبو قصرة أن الوزارة بدأت بالفعل المرحلة الثانية من خطة التحوّل، والتي تشمل تنظيم الرتب والهويات وتفعيل البُنى الإدارية للجيش، في إطار نقل المؤسسة من حالة ثورية مؤقتة إلى بنية مؤسسية مستدامة.
هل دخل الاتفاق غرفة الإنعاش؟
إن تأجيل الإعلان عن اكتمال عملية الدمج، بالتزامن مع تصعيد تركي ضد «قسد»، وتأكيدات مظلوم عبدي بأن العملية ستستغرق «سنوات»، يفتح الباب واسعاً أمام سيناريو الفشل أو التجميد. خصوصاً أن التصريحات المتبادلة تكشف بوضوح عن خلافات جوهرية في الرؤية، ليس فقط بين «قسد» ودمشق، بل أيضاً بين الأطراف الراعية أو الضاغطة كأنقرة وواشنطن.
ورغم تأكيد بدران جيا كرد، القيادي في الإدارة الذاتية، على استمرار الحوار مع دمشق، إلا أن اعترافه بصعوبة وتعقيد الملفات المطروحة، يوضح أن المسافة ما تزال بعيدة عن تفاهم شامل وفعّال.
هل يلتقي مظلوم عبدي مع أردوغان؟
ردّاً على سؤال كان يعتبر بعيداً وغريباً قبل سنوات، أجاب عبدي بوضوح بأنه لا يمانع لقاء أردوغان من حيث المبدأ إن توفرت الظروف المناسبة. هذه الإجابة قد تعكس براغماتية سياسية، لكنها في الوقت نفسه تطرح احتمال إعادة تموضع إقليمي تدريجي لـ «قسد»، خاصة في ظل تراجع الحضور الأميركي وعودة ملف التطبيع السوري إلى الواجهة.
اقرأ أيضاً: أردوغان: لن نسمح بوجود تنظيمات إرهابية شمالي سوريا
آراء الخبراء: بين ضرورة الاندماج وتعقيدات التنفيذ
يرى خبراء عسكريون أن عملية دمج الفصائل المسلحة ضمن وزارة الدفاع باتت خطوة لا رجعة فيها، لكنها لا تخلو من تحديات جدية قد تؤثر على استقرار المرحلة الانتقالية في سوريا. ويعتبر العميد أحمد الحمادة، المحلل العسكري والاستراتيجي، أن هذا الدمج أصبح أمراً واقعاً خاصة بعد المهلة التي منحها وزير الدفاع للفصائل، والتي وصفها بـ «الضرورية للغاية» في هذا التوقيت. ويرى أن المجموعات العسكرية الخارجة عن هيكل الوزارة، من شمال شرقي البلاد إلى محافظة السويداء، لم يعد أمامها سوى خيارين: الانضمام أو التلاشي، مستشهداً بما جرى مع اللواء الثامن في درعا.
كما حذر من احتمالية اندلاع مواجهات في حال تم تعطيل مسار الاندماج، مشيراً إلى أن الجيش قد يضطر لفرض القرار بالقوة، مدعوماً بتزايد التحالفات الدولية ورفع العقوبات الغربية.
في السياق ذاته، يؤكد العميد جلال العبادي أن عملية الدمج تحتاج إلى وقت طويل قد يمتد لسنوات، مستنداً إلى تجارب دولية سابقة. ويشير إلى أن الاندماج يجب أن يتم وفق مسارين متوازيين: دمج الأفراد والمناطق، ودمج القطعات العسكرية بحسب نوع السلاح، بعيداً عن التقسيمات الجغرافية.
كما شدد على ضرورة فرض عقيدة عسكرية موحدة تقوم على الدفاع عن أمن البلاد، مع التأكيد على أهمية العمل تحت راية وطنية واحدة تشمل جميع الفصائل دون استثناء.
سوريا الجديدة على المحك؟!
في ختام تصريحاته، أعرب مظلوم عبدي عن أمله في بناء دولة سورية جديدة قائمة على اللامركزية والمشاركة والعدالة. دولة لا تقصي أحداً، وتستفيد من تنوعها الديني والعرقي كعامل قوة. لكن هذا الطموح يصطدم حتى الآن بجدران الواقع السياسي والعسكري المعقّد، الذي تقوده تناقضات عديدة.
أخيراً، يمكن القول إنه بين تطلعات «قسد» لضمانات سياسية ودستورية، وضغوط أنقرة لدمج فوري بلا شروط، وصمت رسمي من دمشق، تبدو عملية الدمج أشبه بمفاوضات على حافة السكين. فهل ينهار الاتفاق قبل أن يبدأ، أم أن الأطراف ما تزال تملك ما يكفي من الرغبة لدفعه نحو التطبيق؟ الأيام المقبلة وحدها ستحمل الجواب.