تعد دار الأوبرا السورية (أوبرا دمشق)، تحفة معمارية لا يمكن لها أن تخرج عن نسيج المدينة التي تحتضنها، فرغم أن لها مظهر القلاع الصلدة بالنسبة للعابرين، فإنها سرعان ما تبدي حنوها حين يدخل المرء إلى جنباتها الواسعة، كذلك شبابيكها وشرفاتها وسرعان ما تحيل إلى شبابيك دمشق ومشربياتها، في عمارة تستلهم روح المدينة الأقدم. وإذا كان هذا المبنى الدمشقي، الذي يطل على واحدة من أشهر ساحات المدينة، ساحة الأمويين، برمته تحفة، فإن أبهاءه متحف لا تمله الأعين، هكذا يشعر الزائر وهو يتابع لوحات من التشكيل السوري المعاصر، ومنحوتات لأسماء فنية بارزة، إلى جانب تحف شرقية تقليدية ساحرة تتوزع بكرم وبساطة هنا وهناك.
النشأة والتأسيس
إن امتلاك دار للأوبرا في بلد ما يعتبر أحد عناوين مسايرته للعصر والقيمة الحضارية فيه. وقد أنشئت دور الأوبرا في العالم منذ مئات السنين وكان لها أثر هام في صناعة الحضارة الأوروبية. وسعت البلدان العربية ضمن بناء دولها الحديثة لتشييد دور للأوبرا. فكانت البداية مع القاهرة التي بنيت فيها أول دار أوبرا عربية عام 1869، ثم تلتها العديد من دور الأوبرا على مدار ما يقارب المئة عام.
شهد عام 2004 وجود ثالث دار أوبرا عربية، وكانت في دمشق. فبعد طول انتظار وتعثر وحريق عام 1999 الذي عطل انطلاق الصرح الثقافي، وجدت “أوبرا دمشق” وسبقتها في ذلك أوبرا القاهرة التي بنيت عام 1869 وكان اسمها الأوبرا الخديوية، وهي التي ألّف لافتتاحها الموسيقار الإيطالي الشهير فيردي “أوبرا عايدة”. لكنها احترقت عام 1971 وأعيد بناؤها عام 1988 وسمّيت المركز الثقافي القومي.
وفي عام 1921 بنيت في الإسكندرية ثاني دار أوبرا عربية وكانت تحمل اسم تياترو محمد علي ثم حملت اسم الموسيقار سيد درويش منذ العام 1961. ثم كانت الأوبرا الثالثة في دمشق عام 2004. وبعدها أوبرا عمان السلطانية عام 2011 ثم دبي والكويت عام 2016 وتبعتها الجزائر وتونس والسودان.
حفل برنامج افتتاح الدار عام 2004 بالعديد من المساهمات الفنية، فقدم في المساحات الخارجية العرض المسرحي الراقص “ليلة مرصعة بالنجوم” لفرقة “إنانا”، بينما تم تقديم برنامج موسيقي متعدد داخل القاعة الكبيرة، وقدمته الفرقة الوطنية السيمفونية السورية مع الكورال الكبير بقيادة المايسترو ميساك باغبودريان- Missak Baghboudarian والفرقة الوطنية للموسيقى العربية مع جوقة الغناء العربي بقيادة المايسترو عصام رافع وقدم عرض “دبلوماسيون” للكاتب تشيخوف – Chekhov وكان من إخراج غسان مسعود. كما قدمت فعاليات فنية مختلفة.
اقرأ أيضاً: أسامة قاضي: الاقتصاد الثقافي.. بين “ثقافة الإنتاج” و”ثقافة الحاجة”!
أقسام دار الأوبرا السورية
مسرح الأوبرا، تبلغ سعة إطاره (البروسينيوم- Proscenium) 1133 مقعد، وهو مزوّد بمقصورات وشرفتين. ويمكن له استضافة عروض الأوبرا الكبيرة والفرق السمفونية والرقص وسواها.
مسرح الدراما، تبلغ سعة إطاره (البروسينيوم) 633 مقعد موزعة توزيع قاري، ويتميز بجبهته نصف الدائرية، وبخشبته التي تمتد باتجاه الصالة، والجمهور. وهذا المسرح مجهّز لاستقبال العروض المسرحية وفرق موسيقى الحجرة والعازفين المنفردين.
القاعة متعددة الاستعمالات، تبلغ سعتها 237 مقعد، يبدو أن تصميمها مستوحى من المسارح الجورجية. تتميز بتراكب مقاعدها على عربات متحركة، ويمكن إعادة تشكيلها بست وضعيات مختلفة حسب طبيعة العرض.
صالة عرض للفنون التشكيلية والتصوير الضوئي. ملحق بدار الأوبرا عشرين غرفة للفنانين وصالة وملحقات كاملة وغرف خدمات وكل ما يلزم من تجهيزات إضافة للمكاتب الإدارية والتجهيزات الفنية والهندسية والإلكترونية. يتم الدخول إلى موقع دار الأوبرا بواسطة خمس بوابات أو مداخل بوابتان من شارع شكري القوتلي، ومن شارع آخر بوابتان إحدى مداخلها عبر جسر يصل الدار بالشارع الرئيسي ومدخل على ساحة الأمويين.
اقرأ أيضاً: اتحاد الكتّاب العرب في سوريا.. هل أصبحت الثقافة تحت الوصاية؟
أبرز الفعاليات منذ التأسيس
وفي عام 2004 أحيت المطربة ماجدة الرومي يوم 28 تموز حفلاً فنياً ساهراً في دمشق علي مسرح دار الأوبرا هذا الحفل لقي استقبالاً رسمياً وجماهيرياً حاراً بعد فترة انقطاع دامت 13 سنة، لم تغن فيها ماجدة في سوريا، فغنت أغانيها الحديثة والقديمة، إضافة الي أغنية خصت بها الشام افتتحت واختتمت بها الحفل وهي يسعد مساكم يا أهل الشام من ألحان وكلمات الفنان ايلي شويري، وقالت في مؤتمر صحفي أقيم قبيل الحفل أن هذه الحفلة ستكون مقدمة للعديد من الحفلات التي ستحييها في مناطق مختلفة من سوريا.
كما تألقت في دار الأوبرا فيروز في العام 2008، عند وصولها دمشق لعرض “صح النوم” ليصير احتفالاً عاماً بعودتها. واحتضنت دار الاوبرا معرضاً لصورها تزامنا مع عروض المسرحية، شاركت فيه مجموعة فنانين تشكيليين سوريين رسموا بورتريات مختلفة لفيروز وأهدوا اليها لوحاتهم. وبادر كثيرون ممن حضروا المسرحية الى كتابة رسائل حب وتقدير للفنانة اللبنانية الكبيرة، ستجمع في صندوق كبير عنوانه “بطاقة حب دمشقية إلى فيروز” يسلم إليها في ختام العرض الأخير لها.
أما بعد التحرير، أقيم عرض مسرحي موسيقي على مسرح دار الأوبرا في العاصمة دمشق يحاكي انتصار سوريا على النظام السابق، العرض حمل عنوان “انتصار وطن” وهو عرض مزج ما بين المسرح والموسيقى والتعبير الجسدي أخرجه الدكتور عجاج سليم وتولى المايستروا كمال سكيكر الجانب الموسيقي من الحفل مع فرقته، فيما كتبت النصوص المسرحية الخاصة بالعرض السيناريست بتول ورد.
وفي تصريح خاص لنورث برس – North Press، العرض عبارة عن حفل انتصار أُقيم بالتعاون مع مؤسسة مبدعون من أجل وطن وبالتنسيق مع وزارة الإعلام وهو أول حفل للنصر بعد سقوط النظام السوري السابق. والعرض يحوي رسائل كثيرة منها التأكيد على ضرورة المحبة للنهوض بسوريا من جديد، والتأكيد على ضرورة رفض التقسيم من خلال تجارب النزوح التي مر بها الشعب السوري. كما وأفاد رئيس مجلس أمناء مؤسسة مبدعون من أجل وطن بهجت عكروش لنورث برس، العرض قدم مجاناً وليس لدى منفذي العمل أي هاجس ربحي وجميع العاملون بالعرض من عازفين وممثلين ومنظمين جميعهم متطوعون يعملون بلا أجر.
كذلك عرض فيلم الوثائقي الطويل “الابن السيئ” للمخرج غطفان غنوم، والذي اضطر إلى ترك سورية بعد الثورة، بسبب معارضته للنظام، واستقطب عرض الفيلم الذي أقيم بالتعاون بين وزارتي الثقافة والإعلام ومنظمة الدفاع المدني (الخوذ البيضاء) جمهوراً متحفزاً إلى حضور عملٍ مختلف.
واحتضنت دار الأوبرا في دمشق أول حفل موسيقي منذ سقوط الحكم، إذ صعد أعضاء الفرقة السيمفونية الوطنية السورية إلى المسرح وسط تصفيق حار من الجمهور، لتقديم أمسية موسيقية حملت عنوان “للشهداء ولمجد سوريا”، وشهدت عزف مقطوعات لمؤلفين سوريين وعالميين، وسط حضور جماهيري كبير ضم دبلوماسيين ومسؤولين محليين.
ختاماً، دار الأوبرا السورية من أهم وأعرق دور الأوبرا في الوطن العربي، فهي ثالث دار أوبرا أقيمت فيه، فمنذ تأسيسها احتضنت أهم الأعمال الفنية والموسيقية، واستضافت أهم المطربين والفنانين والمسرحيين في العالم العربي والعالمي لتكون بذلك صرح فني حضاري غني ومميز.
اقرأ أيضاً: حازم نهار: الفريضة الغائبة؛ الثقافة