يحكي تل التويني الأثري قصة أخرى مخفية في مدينة جبلة الساحلية، فعبر آثاره وحجارته القديمة، المعمّرة منذ أيام الفينيقيين، يمكن تلمّس الماضي الغني بالثقافة والإنجازات. فكيف عقد هذا التل الذي يبعد أقلّ من 2 كيلومتر عن المدينة، قرانه على عصورٍ مثل البرونزي والحديدي؟ وهل للبحر دورٌ في إحياء الحضارات التي تعاقبت عليه؟
يبعد التل مسافة قصيرة عن الموقعين الأثريين تل سوكاس بنحو 5 كيلومتر، وتل سيانو بنحو 6 كيلومتر، وقد نتج تبعاً لقرون من الاستيطان في نفس المكان ما أدى إلى ارتفاعه، وكان له دور في فهم التطور الحضاري الذي عصف بالمنطقة بتعاقب السنين، ولفهم حقيقة هذا المَعلم المذهل لابد من بحث أهميته واكتشاف كنوزه التاريخية المدفونة.
أهمية تل التويني
يعتبر هذا التل مدينة أوغاريتية مصغرة، كما يعتبر تل التويني مركز مدينة جبلة القديمة أحد أهم التلال المكتشفة في سهل جبلة.
تعود أهميته حسب الدكتور مسعود بدوي رئيس دائرة آثار جبلة ورئيس شعبة التنقيب وقسم الحفريات في الدائرة في إلقاء الضوء على العصور الاثرية التي مرت على هذه المنطقة ولا سيما عصري البرونز والحديد، وأوضح بدوي أن التل يقع على بعد 1,7 كم شمال شرق مدينة جبلة، ومنذ بداية القرن العشرين شكل محط انظار الباحثين والمنقبين فتوالت عليه البعثات التنقيبية.
والتل يبعد نحو 1600 م عن شاطئ البحر، ويحيط به العديد من المجاري المائية التي تصب في البحر المتوسط كنهر الرميلة في الجهة الشمالية ونهر الفوار في الجهة الجنوبية.
وللتل مسقط أجاصي رأسه يقع في الجهة الغربية تبلغ مساحته 11.6 هكتار ويرتفع 26 متر عن سطح البحر وعن السهل المحيط به من 15 حتى 20 م.
اقرأ أيضاً: قلعة صلخد تزين السويداء
بداية التنقيبات في التل
ومنذ العام 1999 بدأت التنقيبات من قبل بعثة أثرية مشتركة سورية بلجيكية واستمرت حتى عام 2010، بعدها تابعت العمل بعثة أثرية سورية كشفت عن العديد من الأحياء السكنية والمنشآت المعمارية التي تعود بشكل أساسي إلى عصري البرونز والحديد، وبشكل جزئي للعصور الكلاسيكية والعصر البيزنطي تم التعرف من خلالها على العديد من المعلومات عن طبيعة التطور الحضاري والاقتصادي للموقع خلال هذه العصور.
اقرأ أيضاً: تدمر بين أنقاضها: ذاكرة حجرية تبحث عن حياة جديدة!
أبرز المكتشفات في تل التويني
ومن أهم المكتشفات الأثرية بحسب بدوي في الموقع مدفنان جماعيان يؤرخان لعصر البرونز الوسيط النصف الأول من الألف الثاني ق. م الأول مبني بحجارة غير مشذبة متوضع تحت أرضية سكنية وجدت داخله بقايا 58 هيكلاً عظمياً للإنسان.
كما تم الكشف عن أثاث جنائزي يحوي من العديد من الأواني الفخارية (أباريق – صحون- طاسات – سرج) تم حفظها بشكل تام، بعض الأباريق تميزت باللون الأحمر أو الأسود الملمع . ووجد أباريق ملونة مستوردة من قبرص وميسينيا مع العديد من الدبابيس البرونزية بالإضافة إلى دمية لعشتار مصنوعة من الفريت.
كما أشار رئيس دائرة آثار جبلة إلى أن المدفن الثاني ضم هيكلين عظميين وجدا داخل مخزن مبني من الحجر الغير المشذب مع أثاث جنائزي بسيط تألف بشكل أساسي من بلطة متطاولة من البرونز وإبريق كبير ثنائي اللون.
كما كشف عن سوية عصر البرونز الحديث النصف الثاني من الألف الثاني ق.م، وقد ضمت العديد من الأبنية السكنية وحفظت أرضيات بعض غرفها بشكل جيد، ويذكر أنها كانت مجهزة بشبكة تصريف للمياه، وتمت الإشارة لوجود مشغل للحياكة في الأقسام الجنوبية الغربية من التل.
اقرأ أيضاً: أهم المعالم السياحية في الساحل السوري
تفاصيل مدينة تل التويني
انحسر السكن في التل وتركز بشكل رئيسي في مدينة جبلة التي عرفت فترة ازدهار خلال العصور الهلنستية والرومانية والبيزنطية والعربية الإسلامية، عندها هجر التل بشكل كامل باستثناء بعض النشاطات الزراعية، ثم عاد له النشاط في العصر البيزنطي، بشكل بسيط عبر بعض المزارع والمنشآت الصناعية التي كانت تنتشر بشكل متقطع على سطح التل.
وكانت مدينة تل التويني القائمة آن ذلك تحوي العديد من الأحياء السكنية والمنشآت والمشاغل والمستودعات والمعابد، جميعها تعود إلى عصري البرونز والحديد.
وعند جوانب الطريق باتجاه المعبد، نجد مداخل الأبنية السكنية والمشاغل التي كان لها بوابات كبيرة يتم الدخول منها نحو فسحة مكشوفة مرصوفة بالحجارة و الحصى.
كانت هذه المدينة تربطها علاقات تجارية مع بعض دول حوض المتوسط مثل قبرص ومينيسيا، حيث تؤكدها القطع الأثرية المكتشفة من جرار فخارية ذلك، مع الجعرانات المصرية التي اكتشفت وشوهدت في شوارع تل تويني الفرعية.
وكما أوضح الباحث والمهندس إبراهيم خيربك في حديثه عن مكتشفات التل: “أدت أعمال الكشف لإظهار رصفه حجرية منتظمة مربوطة مع الجدار السوية الفينيقية المتأخرة من الحديد الأول، وهذه الرصفة هي عملياً الاستعمال الأقدم لهذه المرحلة وقد وجد فوقها أعداد هامة من الكسر الفخارية التي تنتمي لجرار تخزين من أنماط منوعة امتزجت معها حبات من الزيتون المتفحم، كما تم متابعة الكشف عن البقايا المعمارية للسوية الفينيقية المبكرة من الحديد الأول المبكر والتي كان قد كشف عن أقسام منها في المواسم السابقة، وقد ظهر التكوين المعماري الكامل لهذه السوية والتي تعاصر طبقياً البناء الديني المكتشف في الشمال، حيث تألفت الكتل المعمارية من حيز مركزي حفظ منه ثلاثة جدران “الشمالي والغربي والجنوبي” والتي كان عرضها الوسطي لا يتجاوز “75” سم وهي منفذة من الحجارة غير المشذبة وكانت مرتبطة مع أرضية مخربة من التراب المدكوك”.
وأضاف: “بالمقابل كان هذا الحيز يقسم إلى غرفتين صغيرتين تعود إلى المراحل النهائية من المبنى، وما أسفرت عنه أعمال التنقيب إلى الشرق من هذه الكتل المعمارية مكنت من الكشف عن بقايا أساسات لجدارين متوازيين يتوضعان مباشرة فوق أساسات جدران تعود لسوية عصر البرونز الحديث”، كما أشار: “أن هذه الأساسات بقيت مستعملة حتى نهاية عصر الحديد الأول”، وتم الكشف عن البقايا المعمارية العائدة لسوية البرونز الحديث وكانت متوضعه مباشرة تحت الكتل المعمارية العائدة للسوية القائمة فوقها دون ملاحظة وجود آثار لتخريب أو تهديم أو حريق”.
ختاماً، تل التويني صرح أثري مهم وفاخر ينم عن تاريخ وعراقة مدينة جبلة، وتربعها على عرش العديد من الحضارات التي تعاقبت على هذه البقعة الجغرافية أبرزها الحضارة الفينيقية، وهذا التل هو نموذج عن تطور شكل الحياة في هذه المدينة فقد احتضن بين حجارته تاريخ من العراقة وروى قصص جماعات مروا من هنا مازالت آثارهم تصدح بخطواتهم وعمرانهم حتى اليوم .
اقرأ أيضاً: سوريون يطالبون بالتصدي للتنقيب غير المشروع عن الآثار