على الأرض السورية، تدور منذ سنوات لعبة مصالح معقدة يتقاسمها الفاعلون الإقليميون والدوليون. وفي قلب هذه اللوحة المتشابكة، برز مؤخراً حديث عن اتفاق غير معلن بين تركيا و«إسرائيل» في سوريا، يحمل طابعاً عسكرياً تنسيقياً، ويبدو أنه يشكل بداية فصل جديد من توزيع النفوذ في سوريا، وفقاً لتقارير غربية و«إسرائيلية» متقاطعة. فهل نحن أمام تفاهم أمني عابر، أم بداية لاصطفاف إقليمي يعيد رسم الإحداثيات في سوريا؟
تركيا و«إسرائيل» في سوريا: قناة تواصل لدرء التصادم
كشف موقع «ميدل إيست آي» الأميركي عن تفاهم تركي «إسرائيلي» تم التوصل إليه بهدف تجنّب أي احتكاك عسكري مباشر بين البلدين داخل الأراضي السورية. وبحسب ما نقل الموقع عما أسماه مصادر مطلعة، فإن الاتفاق يقضي بإنشاء خط اتصال دائم بين الجيشين، بهدف معالجة أي طارئ عسكري بسرعة وتفادي الانزلاق إلى مواجهة غير محسوبة.
فيما يأتي الاتفاق المحتمل في ظل تصاعد التوتر بين الطرفين في الأشهر الماضية، حيث أبدت تل أبيب مخاوف من توسع النفوذ التركي في الشمال السوري، فيما لم تخفِ أنقرة امتعاضها من الضربات الجوية الإسرائيلية المتكررة على مواقع داخل سوريا، واعتبرتها تهديداً لاستقرار المنطقة.
موافقة إسرائيلية مشروطة
وفقاً للتقارير، فقد أبدت تركيا استعدادها لنشر قواتها في مناطق داخل سوريا تشمل وحدات مشاة ومركبات مدرعة، بحيث لا تكون هذه القوات مزوّدة بأنظمة رادارية أو دفاعات جوية قد ترصد التحركات الإسرائيلية الجوية. وتل أبيب من جهتها لم تعترض على الطرح، ما دامت هذه القوات لا تعرقل عمليات سلاح الجو الإسرائيلي، خاصة في المناطق الحساسة مثل شمال تدمر ومحيط قاعدة «تي فور T4» التي كانت هدفاً متكرراً للقصف الإسرائيلي بسبب استخدامها من قبل قوات إيرانية.
بدورها نقلت صحيفة «إسرائيل هيوم» أن التفاهم شمل السماح لأنقرة بنشر محدود للقوات البرية، فيما تمسكت إسرائيل بشرط إبقاء جنوب سوريا منطقة منزوعة السلاح. ويبدو أن «خط النخيل» – وهو المنطقة المتاخمة لتدمر – بات محوراً للنقاش حول تموضع القوات ونقاط الرصد، في ظل حساسية هذه المنطقة وارتباطها بخطوط إمداد حزب الله.
اتصالات «إسرائيلية» – سورية برعاية تركية
كشف مسؤول «إسرائيلي» في تصريحات لقناتي «العربية» و«الحدث»، أن اللقاءات التي جرت مؤخراً بين ممثلين عن «إسرائيل» والإدارة السورية الجديدة، تمت برعاية تركية، ووُصفت بأنها «إيجابية»، مشيراً إلى أن أجواء النقاشات حملت رسائل متبادلة حول النوايا الحسنة.
وأوضح المسؤول أن الجانب السوري أبدى ما وصفها بـ«لفتات إيجابية» تجاه «إسرائيل»، مشيراً إلى أن تل أبيب تنوي التعامل بالمثل، في إطار بناء الثقة والانفتاح المتبادل.
وشدد المصدر على أن سوريا تعد دولة محورية في معادلات الشرق الأوسط، مشيراً إلى أن انضمامها المحتمل إلى اتفاقيات «أبراهام» قد يغيّر موازين القوى في المنطقة، في حال تحقق مثل هذا السيناريو.
وقال إن بلاده تتابع الوضع السوري عن كثب، مؤكداً أن إسرائيل «لن تقبل بعودة الأمور إلى ما كانت عليه في عهد النظام السابق»، في إشارة إلى رفضها لأي مسار يعيد تموضع النفوذ الإيراني أو الجهات المعادية لها داخل سوريا.
وتابع قائلاً إن التعامل الإسرائيلي يتم اليوم مع الإدارة السورية الجديدة على اعتبار أنها «سلطة شرعية»، وهو ما يعكس تغيّراً في الموقف من دمشق بعد التبدلات السياسية التي طرأت على المشهد السوري.
وكشف المسؤول الإسرائيلي أن الولايات المتحدة تدعم بشكل مباشر إدارة الرئيس الانتقالي أحمد الشرع، وتبذل جهوداً لتأمين نجاحها داخلياً وإقليمياً. ولفت إلى أن واشنطن ساهمت أيضاً في إنجاح التفاهم الأمني الأخير بين إسرائيل وتركيا.
وبحسب ما أكده المصدر، فإن الإدارة الأميركية طلبت من الجانب الإسرائيلي تجنّب أي تحركات تتجاوز المناطق التي تنتشر فيها القوات الإسرائيلية، إلى حين وضوح الصورة السياسية والميدانية في سوريا، في إشارة إلى احتمال حدوث تغييرات تدريجية في خارطة السيطرة والتحالفات داخل البلاد.
صفقة إقليمية غير معلنة؟
يرى المحلل السياسي الدكتور صلاح قيراطة أن الاتفاق المحتمل «الإسرائيلي» التركي يحمل دلالات أبعد من مجرد تنسيق عسكري، مرجحاً أن يكون جزءاً من صفقة إقليمية ترعاها الولايات المتحدة لإعادة توزيع النفوذ في سوريا. فتركيا تملك موطئ قدم في الشمال، بينما تواصل «إسرائيل» استهداف الوجود الإيراني في الجنوب، وتفضّل واشنطن على ما يبدو هذا المزيج التركي «الإسرائيلي» في مقابل تراجع الدور الروسي والإيراني في سوريا بسبب عوامل متعددة، أبرزها الحرب في أوكرانيا والعقوبات الدولية.
يبدو توزيع الأدوار – وليس الأراضي – العنوان الأبرز للمرحلة الجديدة، حيث تميل واشنطن، بحسب قيراطة، إلى إدارة النفوذ بطريقة غير مباشرة، عبر أدوات اقتصادية واستخباراتية و«تحكم وظيفي» بمخرجات السلطة السورية الجديدة، بدلاً من السيطرة العسكرية المباشرة. تركيا تُقدَّم كلاعب براغماتي يمكن احتواؤه، فيما تبقى «إسرائيل» الضامن الأول للمصالح الأميركية في المنطقة من وجهة نظره.
اقرأ أيضاً: هل تتجاوز تركيا حدود السيادة السورية؟!
هل تستفيد الحكومة السورية؟
من جهة أخرى، يعتبر محللون أن أي تقارب تركي «إسرائيلي» قد يصب في مصلحة حكومة سورية انتقالية تسعى لإغلاق الجبهات المفتوحة والتركيز على مشاريع إعادة الإعمار، إذا ما تم الاتفاق على تحييد ملفات الخلاف الكبرى مؤقتاً، وإبقاء الصراع البيني في حدوده السياسية لا الميدانية.
ويرى قيراطة أن شمال شرق البلاد قد يشهد تحولاً أيضاً. فـ«إسرائيل» لا تعلن دعمها لقوات «قسد»، لكنها ترى في ضعف ارتباطها بدمشق وإيران مكسباً غير مباشر. و«في حال أعيد تأهيل السلطة المركزية في دمشق برعاية دولية، فإن «قسد» قد تضطر إلى تقديم تنازلات. أما في الجنوب، وبخاصة في السويداء، فإن التوازنات الجديدة قد تكرّس واقع «اللامركزية الفعلية» في حال عجز الحكومة المركزية عن فرض سيطرتها التامة» على حد قوله.
اقرأ أيضاً: هل ستشهد سوريا صداماً تركياً – «إسرائيلياً» على أراضيها؟!
مناصفة المشهد أم إعادة تشكيله؟
ختاماً، يمكن القول إنّ ما يدور في الكواليس بين أنقرة وتل أبيب قد يكون مفتاحاً لفهم التغيّرات المقبلة في الملف السوري. ليس فقط من باب تجنّب الاشتباك، بل من جهة تبلور تحالفات جديدة قد تعيد رسم الخارطة الجيوسياسية لسوريا على أنقاض التحالفات القديمة. فالمرحلة القادمة قد لا تكون قائمة على احتلال الأرض، بل على توظيف النفوذ، وصياغة مشهد سوري جديد يتلاءم مع مراكز القرار في واشنطن وتل أبيب وأنقرة إلى جانب القوى الإقليمية الأخرى المهمة كالسعودية…