الكاتب: أحمد علي
في عمق البادية السورية، وسط امتداد الرمال كلوحة خالدة، تقف مدينة تدمر شاهدةً على تقاطع الحضارات ومرارة الحروب. هناك، حيث لا شيء سوى الصمت ورياحٌ تلفح الوجوه، تنبثق أعمدة حجرية مهيبة من عمق التاريخ، كأنها تصرّ على البقاء في مواجهة النسيان والخراب. تدمر ليست مجرد مدينة أثرية، بل هي مرآة لكل ما حملته سوريا من مجدٍ وانهيار، من حضارةٍ تعانق السماء إلى دمارٍ ينخر في جذورها.
تدمر: مجدٌ تليد في قلب الصحراء
لطالما شكّلت تدمر إحدى أبرز مدن الشرق القديم، ليس فقط لجمالها المعماري وتنوعه، بل لموقعها الاستراتيجي على مفترق طرق التجارة العالمية. كانت واحة نابضة بالحياة للإمبراطورية الرومانية، وارتبطت بطريق الحرير، ذلك الشريان التاريخي الذي كان يربط الشرق بالغرب. وتحت حكم الملكة زنوبيا، برزت تدمر كرمزٍ للقوة والثقافة والانفتاح الحضاري، فمزجت في عمرانها بين الطابعين الروماني والفارسي، وانصهرت فيها التأثيرات البيزنطية والعربية.
صُنّفت المدينة عام 1980 ضمن مواقع التراث العالمي لليونسكو، لما تحتويه من معابد وأسواق ومدرجات ومسلات وأضرحة شاهدة على قرونٍ من الازدهار.
الخراب: حين اجتاحت الحرب الذاكرة الحجرية
لم تشفع المكانة التاريخية لتدمر أمام أهوال الحرب السورية. فمع تصاعد الصراع، تحولت المدينة إلى مسرحٍ دموي تتنازع عليه القوى المتقاتلة. دُمرت معالم أثرية لا تقدّر بثمن، فمعبد بعل شمين سُوّي بالأرض، والأعمدة الشامخة تهشمت تحت نيران المدافع، وتماثيلٌ نُحِتت منذ آلاف السنين شُوِّهت أو أُزيلت رؤوسها.
بلغت المأساة ذروتها في عام 2015 حين سيطر تنظيم «داعش» على المدينة، ونفّذ حملة ممنهجة لتدمير ما اعتبروه «رموزاً للشرك». فجروا المعابد التاريخية، ومن بينها معبد بل، وقتلوا عالم الآثار خالد الأسعد، أحد حماة المدينة، وعلّقوا جثته على عمود في إحدى الساحات، في مشهدٍ صادم تجسّد فيه قتل الإنسان والتاريخ معاً.
الزوار بين الحنين والخوف
بعد طرد التنظيم من المدينة على يد قوات الجيش السوري السابق في عام 2016، عاد بعض السوريين وعدد قليل من السيّاح الأجانب لزيارة المدينة، كأنهم يسيرون في جنازة بقايا حضارة. الطبيب السوري زياد العيسى، الذي يعيش في فرنسا، وصف تدمر خلال زيارته بأنها «شاهد على حضارة لا تموت»، رغم الدمار الذي نال منها.
لكن حتى زيارات التأمل لم تخلُ من الخطر، إذ ما تزال الألغام الأرضية المخبأة بين الأنقاض تُطلق صفارات الخطر، وقد سُمِع دوي انفجارات في أكثر من مناسبة أثناء جولات الزائرين، في مشهدٍ يعكس استمرار الخطر حتى بعد نهاية المعارك.
الأنفاق والموتى بلا رؤوس
على أطراف المدينة، تكشف الأنفاق التي حُفرت تحت الأرض عن طبقات أخرى من الرعب. استُخدمت هذه المدافن كمخابئ عسكرية، حيث كُتبت على جدرانها شعارات متطرفة وأوامر تنظيمية لمقاتلي التنظيم. وفي الغرف الحجرية، تجثو توابيت مزخرفة دون رؤوس، بعدما جُرِّدت تماثيلها من ملامحها كجزء من حملة التشويه.
أما النقوش التي كانت تزيّن الجدران، من آلهة مجنحة وحيوانات رمزية ورجال يرتدون ملابس احتفالية، فقد غابت بالكامل، وغطّيت بدهان أبيض مسرع، لم ينجُ منه سوى السقف الملوّن بظلال العسل.
حرب تترك آثارها في كل زاوية
لم تكن آثار الحرب مقتصرة على المعالم الأثرية فقط، بل طالت البنية التحتية وكل ما يحيط بالموقع. ففي قلعة تدمر، التي تطل على المدينة من أعلاها، تتناثر مخلفات المعارك: صناديق ذخيرة فارغة، أحذية عسكرية مهترئة، وكتابات روسية وعربية على الجدران. وتظهر آثار الجسر المؤقت الذي بنته القوات الروسية للوصول إلى القلعة، بينما تبدو بعض القاعات وكأنها توقفت عن الزمان، معلّقة بين الماضي والحاضر.
الاحتلالات المتعددة ومشهد فندقي مروّع
في فندق ديديمان، الذي تحول خلال سنوات الحرب إلى نقطة تمركز للمقاتلين الإيرانيين وقوات «فاطميون»، تغيّرت معالم البناء كلياً. تحولت قاعة المؤتمرات إلى مسجد ميداني، وزُينت الجدران بشعارات فارسية تدعو إلى القتال باسم الدين. لكن بعد قصف الفندق، أصبح المكان مهجوراً، تتناثر حوله بقايا سيارات محطمة وعلب معدنية صدئة، بينما ترقد المدينة تحت وطأة صمتٍ ثقيل.
الذاكرة الجماعية ومسؤولية الإحياء
يقول الباحث عمرو العظم، أستاذ تاريخ الشرق الأوسط في جامعة أمريكية، إن الحكومة السورية الحالية لا تمتلك الإمكانيات اللازمة لإعادة ترميم تدمر. لكنه يرى أن كل ما جرى من تدمير هو جزء من قصة المدينة. تدمر ليست فقط ما كانت، بل ما آلت إليه، وما بقي منها رغم كل شيء.
ورغم الخراب، لا تزال المدينة تنبض بما تبقى من روحها، تنتظر من يعيد إحياءها، لا باعتبارها موقعاً أثرياً فقط، بل كرمزٍ لصمود حضارة بأكملها أمام آلة الدمار.
اقرأ أيضاً: صيدنايا: مدينة القداسة والتاريخ.. لا سجن الرعب والدماء!