في عالم السياسة الدولية، لا تخبو الملفات الحساسة بسهولة، بل تظل مفتوحة ما لم تُغلق بإجراءات عملية وشفافية تامة. من بين هذه الملفات، يظل ملف الأسلحة الكيميائية في سوريا واحداً من أكثر القضايا تعقيداً وإثارة للجدل منذ أكثر من عقد من الزمن. وبينما شهدت السنوات الأخيرة تطورات كبيرة، فإن المشهد الحالي يوحي بفرصة تاريخية ربما تكون الأخيرة لإغلاق هذا الملف بشكل نهائي، خاصة بعد التحول السياسي الذي شهدته دمشق ومحاولاتها إعادة بناء علاقاتها مع المجتمع الدولي.
منظمة حظر الأسلحة الكيميائية: الحارس الأمين للمعاهدة
تُعد منظمة حظر الأسلحة الكيميائية (OPCW) الهيئة التنفيذية لمعاهدة حظر الأسلحة الكيميائية التي دخلت حيز النفاذ عام 1997، بهدف القضاء الكامل على هذا النوع من أسلحة الدمار الشامل. وقد انضمت سوريا إلى هذه المعاهدة في أكتوبر 2013، في أعقاب الضربة الكارثية التي وقعت في غوطة دمشق باستخدام غازات سامة، ما دفع مجلس الأمن الدولي لإصدار القرار رقم 2118، الذي قضى بإزالة وتدمير الترسانة الكيميائية السورية تحت إشراف المنظمة.
وبينما أكدت المنظمة لاحقاً تدمير جميع المواد الكيميائية المعلنة من قبل السلطات السورية، ظلت تساؤلات جدية تحيط بمصداقية هذه الإعلانات، نظراً للثغرات التي كشفتها فرق التحقيق لاحقاً حول استمرارية استخدام الأسلحة الكيميائية في النزاع السوري.
علاقات متوترة ثم محاولة إصلاح
منذ بداية الأزمة السورية عام 2011، ظلت علاقة دمشق بالمنظمة متذبذبة. ففي المرحلة الأولى عقب الانضمام، أبدت السلطات السورية تعاوناً ملحوظاً خلال عملية الإزالة ما بين عامي 2013 و2014. غير أن تحقيقات فرق تقصي الحقائق وفريق التحقيق والتعيين أثبتت وقوع هجمات كيميائية متكررة من قبل قوات النظام السابق، ما أدى إلى تعليق حقوق سوريا داخل المنظمة في أبريل 2021، بما في ذلك حق التصويت والترشح للمناصب القيادية.
التحول السياسي الأخير الذي شهدته سوريا فتح الباب مجدداً لإعادة ترميم هذه العلاقة. فقد عبّر المدير العام للمنظمة عن ترحيبه الكبير بتعاون السلطات الجديدة في دمشق، واعتبر ذلك فرصة ثمينة لإنهاء هذا الملف الشائك بشكل نهائي.
تعاون جديد… خطوات ملموسة
بادرت السلطات الانتقالية الجديدة في دمشق إلى التنسيق مع المنظمة من أجل زيارة فريق من الخبراء الدوليين، مؤكدة التزامها الكامل بالتعاون. وفي تصريحات أدلى بها الباحث في مركز جسور للدراسات رشيد محمود حوراني حول الأمر، قال إن الحكومة الانتقالية السورية نجحت في كشف خيوط جديدة مرتبطة ببرنامج الأسلحة الكيميائية، حيث أطلعت فريق المنظمة على مواقع وأشخاص كانوا جزءاً من الشبكة الكيميائية التي استخدمها النظام السابق، بما في ذلك مختبرات تابعة لوزارتي الصحة والزراعة.
وأشار حوراني إلى أن هذه المعطيات الجديدة من شأنها تعزيز قدرة المنظمة على متابعة ومراقبة جميع المنشآت الكيميائية، بما في ذلك مصانع الأدوية والمنظفات، لضمان عدم انحرافها نحو الاستخدام العسكري مرة أخرى.
قطر تدخل على الخط
من أبرز الخطوات الدبلوماسية التي أقدمت عليها الحكومة الحالية كان الطلب الرسمي من قطر تولي مهمة تمثيل سوريا أمام منظمة حظر الأسلحة الكيميائية، كخطوة أولى لإعادة الانخراط في المنظومة الدولية. ولبّت الدوحة هذا الطلب بسرعة، حيث عُيّن سفيرها في لاهاي كقناة الاتصال الرسمية بين دمشق والمنظمة.
وتولي قطر مهمة التمثيل يعكس بُعداً دبلوماسياً بالغ الأهمية بحسب البعض، حيث يرى بعض المراقبين أن هذه الخطوة تفتح نافذة جديدة لتعزيز التعاون بين سوريا والمنظمة، وتسريع عمليات التفتيش والتحقق. كما أن نجاح هذه الخطوة قد يمهد لرفع القيود المفروضة على دمشق تدريجياً، بما في ذلك استعادة حقها في التصويت والمشاركة الكاملة في أعمال المنظمة.
ختاماً، يترقب المجتمع الدولي بقلق واهتمام بالغ تطورات هذا الملف، في انتظار أن تفي دمشق الجديدة بكافة التزاماتها الدولية، ليس فقط لاستعادة مكانتها في منظمة حظر الأسلحة الكيميائية، بل لضمان عدم تكرار مأساة استخدام الأسلحة الكيميائية في أي صراع مستقبلي.
اقرأ أيضاً: هل تمتلك سوريا الأسلحة الكيميائية حقّاً؟