في مدينة اعتادت لعقود على أن تُذكَر باسمها مقترناً بالخراب أو الصمت المفروض، فجّر يومٌ عادي في حمص مفاجأة غير عادية: السياسة لم تعد كلمة ممنوعة، ولا حواراً مغلقاً داخل أروقة السلطة. فاللقاء التشاوري السياسي الذي جمع أطيافاً من مثقفين وناشطين وشخصيات مجتمعية وتجارية، لم يكن مجرّد فعالية ثقافية، بل مؤشراً حقيقياً على تحوّل بطيء لكن واضح، في المزاج العام للمدينة والمجتمع.. عن ماذا نتحدّث؟!
كان العنوان الأولي للمناسبة يحمل طابعاً ثقافياً بحتاً، لكن ما جرى على الأرض أخرجها من هذا الإطار الضيق إلى فضاء سياسي أوسع، فاختير اسم «اللقاء التشاوري السياسي» ليواكب طبيعة النقاش الذي دار، ويعكس رغبة ضمنية في كسر التابوهات التي كبّلت السوريين طويلاً.
اللقاء التشاوري السياسي: من فكرة إلى مبادرة
عُقد اللقاء بدعوة من مديرية الشؤون السياسية في حمص، وجمع خليطاً متنوعاً من المشاركين: مفكرون، ناشطون في المجتمع المدني، شخصيات ثقافية، وفنانون، إلى جانب حضور من قطاع الأعمال. لم يكن التجمع وليد الصدفة، بل جاء كمحاولة لإحياء فضاء عام فقد حيويته منذ زمن.
وفي حديثه عن اللقاء، أوضح جمعان العمير، مسؤول العلاقات العامة في المديرية، أن الهدف الأساسي من اللقاء هو «فتح قنوات التواصل مع أطياف المجتمع كافة»، معتبراً أن النخب الفكرية والثقافية «تمثل حلقة الوصل بين الدولة والمواطنين، وتُناط بها مهمة إعادة بناء الإنسان والهوية الوطنية التي جرى تشويهها عبر عقود من القمع السياسي والثقافي» وذلك حسب تعبيره لأحد المواقع السورية.
الحضور النسائي.. صوت واضح في زمن التغيير
ما لفت انتباه المشاركين والمراقبين على حد سواء هو المشاركة النسائية القوية واللافتة. لم تكتف النساء بالحضور، بل حملن مداخلات جريئة، أكدن فيها أن السياسة ليست حكراً على الرجال أو النخب التقليدية، بل جزء من الحياة اليومية، خاصة في ظل تعقيدات ما بعد الحرب.
وفي مداخلة لها، شددت «لمى طباع» على أن «الفكر والثقافة والسياسة متلازمات لا يمكن فصلها»، وأن المطلوب في المرحلة الراهنة هو «بناء مساحة للحوار المجتمعي، تسمح ببلورة مفاهيم التعايش والسلم الأهلي في بيئات متداخلة الخلفيات والهويات».
شباب في الواجهة: جيل لم يعد هامشياً
كان لافتاً أيضاً الحضور الشبابي، ولو بشكل جزئي، حيث أبدى البعض تطلعه لتوسيع دائرة المشاركة مستقبلاً. ووصفت المتطوعة عتاب شاهين اللقاء بأنه «فرصة ثمينة لدمج الأجيال»، مشيرة إلى أهمية إشراك الشباب في عملية إعادة البناء، سواء على المستوى الاجتماعي أو السياسي.
رغبة الشباب في الانخراط السياسي ليست ظاهرة جديدة، لكنها غالباً ما ووجهت بالتهميش أو التشكيك في الجدارة. أما اليوم، فتبدو الأمور مختلفة، إذ إن النقاش المجتمعي بدأ يتسع ليحتضن آراء جيل نشأ في زمن الحرب، لكنه يطمح لصناعة واقع مختلف.
السلم الأهلي وعودة الحوار: كسر الجدران الخفية
اعتبر علاء إبراهيم، أحد منسقي الفعالية وناشط في مجال السلم الأهلي، اللقاء «بداية لمسار جديد»، مؤكّداً أن المشاركين يمثلون فسيفساء فكرية وسياسية متباينة، وهو ما يضفي على الحوار طابعاً غنياً وضرورياً.
وأوضح إبراهيم أن هذا اللقاء التشاوري هو الأول في سلسلة لقاءات لاحقة ستُعقد في المدينة وريفها، بهدف صياغة برنامج عمل مشترك ينبع من أولويات يحددها المجتمع نفسه، لا الجهات الرسمية.
السياسة من جديد: ليس شعاراً بل ممارسة
ما جرى في حمص لا يمكن عزله عن المزاج العام في البلاد. فبعد سنوات من احتكار السلطة للخطاب السياسي، يبدو أن المجتمع المدني بدأ يستعيد مساحة للنقاش. صحيح أن هذه الخطوة لا تزال في بدايتها، لكن مجرد انعقاد لقاء سياسي في حمص، بهذه الصيغة المنفتحة، يطرح دلالة مهمة: السوريون يريدون أن يتحدثوا عن شؤونهم علناً، بعيداً عن الخوف والعقاب.
وهذا لا يعني أن الطريق بات معبّداً، فالعوائق ما زالت كثيرة، والمخاوف قائمة. لكن التغيير الحقيقي لا يبدأ إلا بكسر الصمت، والاندفاع لقول الرأي. وهذا تحديداً ما فعله المشاركون في اللقاء، حيث جعلوا من السياسة شأناً شعبياً لا نخبوياً، ومن الحوار وسيلة للخروج من المأزق المزمن، لا مجرد ترف فكري.