حبوبٌ خضراء لذيذة، صغيرة الحجم كبيرة الفائدة، وُلِدت بمحض الصدفة لتتربع لاحقاً على عرش أغلى موائد العالم… إنها الفريكة، التي غابت لمدة طويلة عن موائد السوريين، رغم أن سوريا تعدّ من أشهر البلدان التي تنتجها… في هذا المقال سنذهب في رحلة ممتعة لنعرفكم على تاريخها الطويل، فوائدها، وطريقة صنعها الفريدة من نوعها.
يسميها البعض “الفريك” أو “فريك”، لكن اسمها المتداول بكثرة هو “الفريكة”، تمتاز بطعمها المدخن وقوامها المطاطي المميز، ويعود تاريخها إلى آلاف السنين!
فقد وردت الإشارة إلى هذه الحبوب في نصوص الحضارات القديمة في الهلال الخصيب، حيث كانت تُعدّ عن طريق التحميص بالنار، وتشير بعض النصوص البابلية والآشورية إلى استخدام حبوب محمّصة منذ أكثر من 2300 عام، بينما تتحدث البرديات المصرية -وإن لم تذكر الاسم بصريح العبارة- عن طرق إعداد مشابهة ترجع إلى نحو 4000 سنة.
وفي التوراة، تم ذكر هذه الحبوب تحت مسميات مثل “قالوي” و”كرمل”، كما ورد ذكرها أيضاً في أمهات كتب الطبخ العربية، خاصة خلال العصر العباسي (750–1258م)، فكانت حاضرة على موائد النخبة وفي وصفات الطهاة المهرة… وفي تلك الفترة، بدأت تظهر تسمياتها القريبة من المصطلح المعروف اليوم، مثل “الفريك” و”الفريكة”، وقد وثّق ابن سيار الوراق استخدامها في كتابه الشهير “الطبيخ” في القرن العاشر الميلادي، وهو من أقدم كتب الطهي المعروفة، إلى جانب إشارات مماثلة في مؤلفات طبخ أخرى من العصر نفسه.
ومنذ القدم، كانت الفريكة جزءاً من الحياة اليومية لكثير من الشعوب، وخاصة القبائل البدوية في بلاد الشام (سوريا، الأردن، لبنان، فلسطين) وأيضاً في شمال أفريقيا، وكان سبب انتشارها بينهم بسيطاً ولكنه عميق، فهي متينة، قادرة على التحمل، وصلاحيتها طويلة في بيئة قاسية كالصحارى، فكانت تُطهى كبديل للأرز أو البرغل، ويتم اعتمادها في الوجبات اليومية كما في الولائم.
الحبوب التي وُلِدت من النار!
ومثل كل طعام عريق، للفريكة حكاية مثيرة، ورغم تعدد الروايات حول نشأتها، إلّا أن الرواية الأشهر والأكثر تداولاً هي تلك التي تتبناها حركة Slow Food العالمية، بالشراكة مع منظمة الأغذية والزراعة FAO، وتقول الرواية إن قرية شرقية متوسطية -يقول البعض إنها البقاع في لبنان- حوالي عام 2300 قبل الميلاد، تعرضت لهجوم خلال إحدى الحروب، وأُحرقت حقول قمحها قبل أن يُحصد، وبعد انسحاب المعتدين، لم يجد السكان سوى السنابل المحترقة، فقاموا بجمعها وفركها وتنظيفها من الرماد، ثم طهوها، لتكون المفاجأة هنا: لذيذة، مدخّنة، ومشبعة… ومن هناك، بدأت الفريكة رحلتها الطويلة في تاريخ الطعام.
ومع مرور الزمن، أصبحت الفريكة طبقاً رئيسياً في مطابخ الشرق، خاصة في المناسبات والولائم، فأصبحت تُطهى مع اللحوم الحمراء أو البيضاء مثلما يُطهى الأرز.
وحتى اليوم، تمتاز منطقة الشرق الأوسط بزراعتها. لكنها لم تبقَ حبيسة هنا، فقد توسعت زراعتها في العقود الأخيرة لتصل إلى الولايات المتحدة، كندا، وأستراليا، إذ لاقت مؤخراً اهتماماً عالمياً متزايداً، فدخلت قوائم الطعام الصحي، وظهرت في أطباق المطاعم الراقية بوصفها بديلاً غنياً ومغذياً للأرز، الكينوا، أو الكسكس، ويعود ذلك إلى خصائصها الغذائية.
اقرأ أيضاً: القطن السوري يحتضر.. والمزارعون ينتظرون الفرج!
فما هي فوائد الفريكة؟
تمتاز الفريكة بغناها بالألياف التي تسهم في تحسين الهضم، وتعزيز صحة الأمعاء، كما تساعد على تنظيم مستويات السكر والكوليسترول، وتعدّ خياراً مثالياً لمن يعانون من اضطرابات في السكر أو يسعون للوقاية منها، بفضل مؤشرها الجلايسيمي المنخفض الذي يساعد في الحفاظ على توازن مستويات الجلوكوز، كما توفر مركبات طبيعية تسهم في تعزيز صحة العين تقي من آثار التقدم في العمر، وتحمي من الأضرار المرتبطة بالإجهاد البصري.
وإحدى أبرز مزايا الفريكة والتي جعل كثر يضعونها ضمن أنظمتهم الغذائية هي أنها تُشبع لفترة طويلة، ما يقلل الحاجة للوجبات الخفيفة ويساعد على التحكم بالوزن بشكل طبيعي دون حرمان، فهي منخفضة الدهون، غنية بالعناصر الغذائية الأساسية، وتمنح الجسم ما يحتاجه دون أن تُثقل عليه.
إنتاج الفريكة بين الماضي والحاضر

قديماً، كان إعداد الفريكة عملية تقليدية شاقة، ففي لبنان وسوريا على سبيل المثال -مع اختلافات طفيفة في تسميات الأدوات- كان الفلاح يقطف سنابل القمح وهي ما تزال خضراء، ويجمعها في أكياس كبيرة، وبعد ذلك، تأتي المرحلة الأهم وهي التحميص، وكانت ربات البيوت يتولين هذه المهمة الدقيقة، فيقمن بنشر السنابل فوق النار وتقليبها باستخدام أداة تُعرف باسم “المجراية” أو “المدراية”، وهي أشبه بمجراف مسطّح، حتى تكتسب السنابل لونها الذهبي ونكهتها المدخنة.
بعد التحميص، كانت تُترك السنابل في مكان اسمه “المصطاح” -وهو مساحة واسعة تستخدم لتجفيف الحبوب تحت أشعة الشمس- وتُترك هناك ليومين أو ثلاثة حتى تجف تماماً، بعدها تأتي عملية درس السنابل، أي فركها وفصلها عن قشورها باستخدام مكنة خاصة لفصل القمح، لتصبح جاهزة بصورتها النهائية.
أما اليوم، تطورت طرق تحضير الفريكة وتحوّلت من طرق يدوية متوارثة إلى أساليب حديثة دون أن تفقد نكهتها الأصيلة، ولكن رغم الاعتماد على التقنيات الحديثة في الإنتاج التجاري، لا يزال بعض المزارعين في سوريا يحتفظون بجوهر العملية التقليدية، لا سيما في القرى والمناطق الزراعية.
اقرأ أيضاً: الباشا وعساكره أصولها ومكوناتها
الفريكة في الشمال السوري
يبدأ موسم الفريكة سنوياً في الشمال السوري في أواخر شهر نيسان وبداية أيار، ويمتد لنحو ثلاثة أسابيع، وخلال هذه الفترة تتحول حقول القمح إلى مساحات مزدحمة بالنشاط، لحصد السنابل الخضراء قبل نضجها الكامل وحرقها في طقوس مثيرة.
ويمثّل موسم الفريكة مصدر دخل مهمٍّ للعديد من العائلات، ويشارك فيه مزارعون وعمال شباب ونساء وأطفال، إلى جانب أصحاب الحصّادات والسيارات، وتجار المحروقات والمعدات الزراعية… الجميع يترقب هذا الموسم على أمل أن يوفر مورداً مادياً يخفف من أعباء الحياة اليومية، في منطقة تعاني من تراجع فرص العمل، وارتفاع معدلات الفقر، وهجرة واسعة للشباب.
ورغم قصر الموسم، يواجه العاملون في إنتاج الفريكة شمال سوريا العديد من الصعوبات خاصة في السنوات الأخيرة، مثل قلة الأمطار وضعف جودة الحبوب، ولكن رغم ذلك فهم لا زالوا يحافظون على هذا التقليد الزراعي الذي يربطهم بأرضهم.
في العام الماضي، بلغت المساحة المزروعة بالقمح في إدلب حوالي 33 ألف هكتار، ويقدّر أن إنتاج الفريكة شكّل حوالي 4% من إجمالي محصول القمح، وهي نسبة صغيرة لا تؤثر بشكل ملحوظ على الإنتاج الكلي للقمح في المنطقة، ووفقاً لتقديرات عام 2023، وصل إنتاج القمح في محافظات إدلب وريف حماة الشمالي وجزء من ريف حلب الغربي إلى نحو 99 ألف طن.
وقد غيّبت الفريكة عن موائد السوريين بشكل ملحوظ خلال سنوات الحرب، بسبب فقدان مناطق رئيسية لإنتاج القمح مثل الجزيرة السورية وشمال حلب من سيطرة النظام السابق، إضافة إلى انخفاض الدخل وارتفاع أسعار الفريكة بشكل كبير ما حرم كثير من الأسر من تناولها.
اقرأ أيضاً: القمح السوري: مواصفات عالمية تحجبها التحديات!
تنوع طرق تحضيرها
تستخدم الفريكة في كثير من الأطباق العربية التقليدية، وتعدّ جزءاً من المطبخ في بلاد الشام والعراق ومصر والجزائر منذ آلاف السنين.
في فلسطين على سبيل المثال، تعدّ شوربة الفريكة من الأطباق الشهيرة حتى يومنا هذا، خاصة في شهر رمضان، كما تُستخدم كمكوّن أساسي في تحضير “المفتول”.
وفي الأردن، يتم طهيها مع لحم الضأن والبازلاء والصنوبر، وفي سوريا تضاف إليها الزبدة واللوز سواء كانت مطهية مع اللحم أو الدجاج، بينما في لبنان تحضّر مع الدجاج بدلاً من الضأن، وفي تونس تشتهر لديهم وجبة “شوربة الفريكة بالمخ”. أما في تركيا، فتدخل في طبق أناضولي اسمه “فريك بيلابي” يمزجون الفريكة فيه مع البرغل والبقوليات والأعشاب.
وبعيداً عن طريقة طهيها التقليدية، بدأت الفريكة تظهر في وصفات جديدة مثل السلطات الباردة، وأشهرها “تبولة الفريكة”، إذ تًخلط بالخضار والأعشاب وزيت الزيتون، وهي طبق مثالي لمن يتبع نظاماً صحياً.
وهكذا نختتم حديثنا عن الفريكة، هذه الحبوب التي تجمع بين تاريخ مثير وطعم شهي وفوائد مبهرة… في المرة القادمة التي يدعوك فيها أحدهم لتناولها، اعلم أنك من الأشخاص الغاليين على قلبه.
اقرأ أيضاً: المطبخ الحمصي وأشهر أربع أطباق تزينه