أحدث الاتفاق الذي وقع بين الحكومة السورية ومجموعة الشحن والخدمات اللوجستية الفرنسية CMA CGM، بحضور الرئيس السوري أحمد الشرع، أصداء واسعة في المجتمع السوري والإعلامي، متسائلين عن حجم الفائدة التي ستجنيها سوريا من هذا الاتفاق. كما مثّل الاتفاق تحدياً كبيراً أمام الحكومة السورية في عقد اتفاقات دولية بظل العقوبات الغربية المفروضة عليها منذ عقد من الزمن، وإعادة مكانة الموانئ السورية على الساحة الدولية البحرية.
تضمن تطبيق الاتفاق مع الشركة الفرنسية مرحلتين، الأولى العقد الموقع في فبراير الماضي مع هيئة المنافذ البرية والبحرية لتطوير وتحديث البنية التحتية والفوقية لمرفأ اللاذقية وزيادة قدرته التشغيلية، على أن يتم تطوير باقي مرافئ البلاد بحكم أن العقد الموقع مدته 30 عاماً.
مهد العقد السابق لتوقيع العقد الحالي مع الشركة الفرنسية لتطوير الحاويات الموجودة في ميناء اللاذقية، حيث قال مدير عام الموانئ السورية الدكتور عدنان حاج عمر لموقع سوريا اليوم 24، إن “البند الأول من العقد نص على ضخ استثمارات بقيمة 30 مليون يورو في السنة الأولى، تليها 200 مليون يورو في السنوات الثلاث التالية، على أن يتم إنشاء رصيف بحري جديد بطول 1.5 كيلومتر وعمق 17 متر، مما يساهم في فتح الطريق أمام السفن العملاقة للرسو في الميناء”، كما يتيح العقد أيضاً صيانة المعدات الحالية، وتطوير الأرصفة، وإدخال التكنولوجيا وأنظمة تشغيل المعدات الحديثة المستخدمة في الموانئ العالمية.
وتابع الدكتور عدنان حاج عمر في السياق ذاته: “تتقاسم الحكومة السورية والشركة الفرنسية مسؤولية إدارة وتشغيل مرفأ اللاذقية، إذ تتحمل الشركة الفرنسية مسؤولية إدارة وتشغيل محطة الحاويات، على أن تقوم الحكومة السورية بالمراقبة والتقييم. كما تحتفظ الحكومة بحقوق السيادة الوطنية ضمن الإطار القانوني الناظم للعقود الاستثمارية البحرية، ونص العقد أيضاً على عودة ملكية الآليات والمعدات المستخدمة للحكومة السورية عند انتهاء العقد مما يساهم في استمرار عجلة التطور والتشغيل”.
وعلى عكس الاتفاق السابق مع السلطة السورية السابقة، تعمل الحكومة السورية الجديدة على تعزيز المصداقية والشفافية في بنود العقد وإعطاء الصفقة أبعادها الدولية، ففي حال النزاعات يتم الاحتكام إلى غرفة التجارة العالمية بلندن، كما أن العقد يستند إلى أحكام القانون السوري للاستثمار.
وقد أشار الدكتور عدنان حاج عمر أن الشركة الفرنسية كانت قد وقّعت عقداً لعشر سنوات مع النظام السابق عام 2009، إلا أن غياب الشفافية والمصداقية، والقيود التي فرضها النظام على الشركة الفرنسية حال دون عملها بشكل أفضل، بالإضافة إلى سنوات الحرب التي لا يمكن من خلالها الحكم على عمل الشركات الدولية في سوريا، أما العقد الجديد تم توقيعه على أساس سمعة الشركة الفرنسية وليس على الماضي، كما أن الدولة السورية منفتحة جداً على تحويل إدارتها نحو الحداثة والتطوير.
أما بالنسبة إلى توزيع الأرباح، فيعتمد العقد على النسبة التصاعدية للأرباح بالنسبة للحكومة السورية حتى تصل إلى نسبة 70% من صافي الربح، أي كلما زاد عدد الحاويات ازدادت نسبة أرباح الدولة، في حين تبلغ نسبة أرباح الشركة الفرنسية المشغلة 30%.
يعد الاستثمار في ميناء اللاذقية من أهم القرارات كونه من أقدم الموانئ السورية التي تم إنشاءها وشريان اقتصادي هام في استيراد كافة البضائع غير النفطية، أما الشركة الفرنسية CMA CGM فتعد من كبرى الشركات العالمية في الشحن البحري، وتعمل على تقديم النقل البحري والخدمات اللوجستية، وتدير العديد من محطات الحاويات الدولية، ويقع مقرها في مرسيليا الفرنسية.
الشركة الفرنسية CMA CGM وآفاق تعاونية مختلفة عن الماضي
أكد مدير عام الموانئ السورية الدكتور عدنان حاج عمر لـ “سوريا اليوم 24″، أن هناك العديد من الأطراف الدولية التي قدمت عروضاً للدولة السورية وأبدت رغبتها بإبرام هذا العقد، إلا أن الحكومة اختارت الشركة الفرنسية لأسباب عدة، أولها أن لدى الشركة تجربة سابقة في إدارة محطة الحاويات في مرفأ اللاذقية، وهي لذلك الجهة المؤهلة لوضع خطة التطوير المناسبة بحكم معرفتها بتعقيدات ومشاكل المرفأ، وثانياً لم ترغب الدولة السورية بإدخال المرفأ بمرحلة انتقالية لشركة أُخرى تأخذ الوقت الطويل لمعرفة ما تحتاجه للتشغيل.
هذا وأبدت الشركة الفرنسية مرونة كبيرة أثناء المفاوضات على العقد، بالإضافة إلى كونها من كبرى الشركات العالمية التي ستشكل إضافة مميزة لمرفأ اللاذقية من حيث تزويده بتكنولوجيا ومعدات حديثة. أما من حيث ضمانات إنجاح الاتفاق، فالظروف التي يعمل بها الطرفان مختلفة عن السابق، إذ إن الدولة السورية لن تتوانى عن القيام بدورها في هذا الاتفاق، فقد تم تشكيل لجنة إدارية مشتركة من الطرفين لمتابعة الأعمال اليومية والتشغيلية، وعدم تغييب دور الدولة في أي مرحلة من مراحل التشغيل لضمان الإنسجام بين العمل الإداري والتشغيلي، كما أن تأمين المستلزمات التشغيلية سيتم بالتعاون المشترك بين الدولة والشركة الفرنسية مما يتيح فرصة لمواجهة التحديات بالسرعة المطلوبة.
اقرأ أيضاً: هيئة المنافذ البرية والبحرية: احذروا الاحتيال
تأثيرات جيوسياسية على الاتفاق
كما أن لهذا الاتفاق أثر استراتيجي على مرفأ اللاذقية بشكل خاص وسوريا كبلد يحاول إعادة تموضعه ضمن الخريطة التجارية العالمية كما أكد الدكتور عدنان حاج عمر، إذ قال: “الاتفاق يساهم في تغيير موقع سوريا اللوجستي على خارطة المنطقة من خلال تحويل المرفأ إلى مركز إقليمي للترانزيت يربط شرق المتوسط بدول الجوار مثل العراق والأردن خاصة مع تحسين الكفاءة التشغيلية واستقدام خطوط ملاحية جديدة”.
بينما يرى محللون اقتصاديون أن هذه الاتفاقية الموقعة مع الشركة الفرنسية ستعود بأرباح كبيرة للدولة السورية. إلا أنه لا يجب الإفراط بالتفاؤل في ظل استمرار العقوبات الغربية على سوريا، فصحيح أن عوائد الاتفاق قد تصل إلى 800 مليون دولار، بحكم رسوم الحاويات وخدمات التخزين والمناولة التي تقوم بها الشركة الفرنسية CMA CGM عبر أسطول بحري يضم 624 سفينة و 150 خطاً ملاحياً دولياً، إلا أن هذه تبقى أرقام ما لم تحقق الدولة السورية الاستقرار الأمني والسياسي والاعتراف الدولي بها، وتحقيق الانفتاح الاقتصادي الدولي عليها، مما يسمح للسفن التجارية المرور دون عوائق قانونية.
ومن ناحية أخرى، هناك من ذهبَ إلى أبعاد سياسية لإبرام الاتفاق مع الشركة الفرنسية، إذ قال محللون سياسيون أن فرنسا عبر هذا الاتفاق وضعت روسيا تحت المراقبة الدائمة، بحكم وجود قاعدة لها في حميميم وإلغاء عقدها في إدارة مرفأ طرطوس في كانون الثاني الماضي.
لكن في الختام، من الجيد أن تتسابق الشركات الغربية ومن بينها الشركة الفرنسية CMA CGM لتثبيت موطئ قدم لها في الاستثمارات بسوريا في ظل عودة سوريا للساحة الدولية بعد الحرب التي دامت لأكثر من عقد، وفي ظل مشاريع إعادة الإعمار والنهوض بسوريا الحديثة.
اقرأ أيضاً: هل تحرك الاستثمارات الأجنبية والعربية عجلة التعافي الاقتصادي في سوريا؟