بقلم: لمى ابراهيم
“الإشاعة تقتل”… ليست هذه جملة دعائية نتناقلها بلا سبب، بل أضحت حقيقة مخيفة في عصرٍ أصبحت فيه مواقع التواصل الاجتماعي ساحة مفتوحة لكل من يرغب في بثّ الأكاذيب، عصرٌ باتت تنتشر الشائعات فيه بسرعة الضوء، وغالباً ما تجد من يصدقها ويروّج لها بلا وعي… وفي سوريا تحوّلت مواقع التواصل الاجتماعي منذ بداية الحرب والصراعات والتي تزامنت مع زيادة انتشار هذه المواقع، إلى منصات شغلها الشاغل بثّ الفتن وتأجيج الخلافات، سواء من أفراد يفتقرون إلى الوعي أو من قبل حسابات وهمية وأجندات خفية وجدت ضالّتها في انقسام الآراء وحساسية التركيبة المجتمعية.
ومع سقوط نظام الأسد في نهاية العام الماضي، ازدادت وتيرة الإشاعات بشكل كبير، حتى باتت الأخبار الحقيقية ترفاً نادراً لا نراها إلا بين ألف خبر كاذب. ورغم أننا في القرن الواحد والعشرين، لا يزال الكثير من الناس يفتقرون للتفكير النقدي، فيصدقون الشائعة ويعيدون نشرها، لتتحول من كذبة قذرة إلى “حقيقة” متداولة.
في هذا التقرير، نستعرض أبرز الدراسات التي تفسّر لماذا ينجذب الناس للشائعات ولماذا يتداولونها، ونتطرق للحالة السورية الفريدة وأهم آراء الخبراء في هذا الموضوع.
لماذا نصدّق الشائعات؟
هناك أسباب عديدة تجعل الناس يصدقون الأخبار الكاذبة، سواء طريقة انتشار الأخبار عبر الخوارزميات، أو لأسباب نفسية عميقة، فقد سلّطت بعض الدراسات الضوء على دور التحيزات المعرفية والمشاعر، والانتماءات الاجتماعية في تشكيل سلوك المستخدمين.
على سبيل المثال هناك دراسة أجراها ثلاثة باحثين من معهد ماساتشوستس للتكنولوجيا (MIT) عام 2018 عن ظاهرة مقلقة على منصة “إكس” -تويتر سابقاً- مفادها أن الأخبار الكاذبة تنتشر بشكل أسرع وأوسع من الأخبار الحقيقية، وبفارق كبير.
تتبعت الدراسة أكثر من 126 ألف سلسلة من القصص الإخبارية تم تداولها عبر 4.5 مليون تغريدة بين عامي 2006 و2017، أظهرت أن البشر هم المحرك الأساسي لانتشار المعلومات الكاذبة، وليست الروبوتات، إذ استمرت الفجوة بين الأخبار الصحيحة والمضللة حتى بعد إزالة الحسابات الآلية من العينة.
وتوصلت الدراسة إلى أن الأخبار الكاذبة أكثر قابلية لإعادة التغريد بنسبة 70% مقارنة بالحقيقية، وتصل إلى جمهور من 1500 شخص في وقت يقل ست مرات عن الأخبار الموثوقة، كما أنها تنتشر على المنصة بعمق وسرعة تفوق الحقائق بنحو 10 إلى 20 مرة، ويرى الباحثون أن هذا التفاوت قد يكون مرتبطاً بعلم النفس البشري، وأن الناس ينجذبون للمعلومات الجديدة وغير المألوفة، حتى لو كانت خاطئة، لأنها تمنحهم شعوراً بأنهم مطّلعون ومميزون عند مشاركتها أولاً.
وفي دراسة أخرى أجرتها جامعة جنوب كاليفورنيا ونُشرت عام 2023 تبيّن أن المشكلة لا تكمن فقط في تفكير الأفراد أو ميولهم السياسية، بل في البنية الأساسية لمواقع التواصل الاجتماعي نفسها، فقد أوضح الباحثون أن هذه المنصات تعمل وفق نظام يشبه “الألعاب”، حيث يحصل المستخدمون على مكافآت فورية -أي الإعجاب والتعليق- عند نشرهم لمحتوى مثير، بغضّ النظر عن دقته، ويعزز هذا النظام سلوك المشاركة المتكررة دون تدقيق.
ومن اللافت أن المستخدمين لا يشاركون فقط ما يعكس قناعاتهم، بل ما يثير الانتباه، حتى لو تعارض مع آرائهم، ما يؤكد أن هدفهم الأساسي ليس الإقناع، بل جذب التفاعل، لذلك، خلصت الدراسة إلى نتيجة تفيد بإنه إذا أرادت هذه المنصات الحد من انتشار المعلومات الكاذبة، فعليها إعادة تصميم خوارزمياتها، بحيث تكافئ المحتوى الدقيق والموثوق، لا المحتوى المثير فقط.
إحدى الدراسات الحديثة أكدت كذلك أن أحد أبرز أسباب انتشار الشائعات هو غياب المعلومات الدقيقة والواضحة، وأوضحت أن الجهات الرسمية هي المسؤولة لجهة تفنيد الشائعة من خلال إصدار بيانات سريعة وشفافة عند ظهور الشائعات، مشددة على ضرورة تعزيز التواصل من قبل مؤسسات الدولة لمواجهة التضليل، فيما تباينت آراء الخبراء بشأن فرض الرقابة على وسائل الإعلام التفاعلي، إذ رأى البعض أنها قد تسهم في الحد من الشائعات، بينما اعتبر آخرون أن الرقابة الكاملة شبه مستحيلة بسبب ضخامة المحتوى وسرعة تدفقه.
اقرأ أيضاً: «سرطان السوشيال ميديا» ينهش ما تبقّى من إنسانيتنا!
الشائعات في سوريا: ساحة حرب حقيقية
من الدراسات السابقة نرى أن مشكلة الشائعات عالمية، إلّا أن لكل بلد خصوصيته وظروفه، وفي سوريا تحديداً، الأمر خطير جداً، فالبلد يمر بمرحلة حساسة، وكل كلمة مغلوطة أو خبر كاذب قد يثير جدلاً واسعاً ونقاشات عقيمة، لا طائل منها سوى زيادة الانقسام والتوتر بين الناس، خصوصاً في ظل التركيبة الطائفية والعرقية الدقيقة، والشرخ الاجتماعي الذي خلّفته سنوات الحرب.
لذا، لا بد على الصحفيين أن يجعلوا ضميرهم المهني صاحياً طوال الوقت، لأن التحقق من المعلومات أصبح مسؤولية إنسانية بالغة الأهمية، تكاد توازي نقل المعاناة وكشف الفساد، فالإشاعات اليوم تثير البلبلة حتى في أبسط الأمور، ولا يكاد أحد يتقبّل رأي الآخر.
على سبيل المثال، انتشرت مؤخراً شائعة عن وقوع زلزال في 25 أيار 2025 -أي اليوم- وهو ما تسبّب بحالة من الهلع بين الناس، رغم أن أحداً لا يعلم الغيب سوى الله، ورغم وجود دراسات زلزالية، فإنّ تداول هذه الأخبار دون أساس علمي دقيق يزيد من القلق في مجتمع يعاني أصلاً من الدمار النفسي.
وفي مثال آخر، تداولت صفحات عديدة خبراً عن مشروع استثماري ضخم لبناء برج سيفوق برج خليفة في دمشق، البعض تعامل معها بفرح، وآخرون سخروا منها، وكالعادة انقسم الناس… لكن بتحليل بسيط، تبيّن أن اسم الشركة حقيقي، لكن نشاطها لا علاقة له بهذه الاستثمارات، واسم المدير المذكور حقيقي أيضاً، ولكنه غير مرتبط بالشركة، ما يبيّن لنا أن الخبر تمت كتابته على الأرجح باستخدام الذكاء الاصطناعي.
وليت الشائعات توقفت عند حدود هذا النوع من الأخبار، فهي –للأسف- تجاوزت ذلك لتلامس أكثر المواضيع حساسية وخطورة في سوريا، خاصة تلك التي تثير النزعات الطائفية… فالفيديوهات القديمة التي تُعاد مشاركتها خارج سياقها، والتصريحات المجتزأة التي تُستخدم لإثارة الكراهية ضد طوائف أو فئات معينة، والمقاطع المصوّرة لاشتباكات في دول أخرى تُنسب بلا وجه حق لسوريا، غدت أدوات خطيرة لنشر الفتنة.
ومن بين أخطر ما يتم تداوله أيضاً، الشائعات التي تسخّف من قضية خطف الفتيات، والتي تُعالج بطريقة سطحيّة وساخرة، رغم أنها قضايا تمس الأمن الاجتماعي وتتطلب حلولاً عاجلة، وما يزيد الأمر سوءاً، أن أحداً ما يخرج في كل مرة لينفي الخبر أو تظهر قصة ملفقة جديدة -يصدقها كثر- وكأن الموضوع لعبة أو تسلية.
وعلى الهامش ولكن في السياق ذاته: المرأة هي وقود مجتمعاتنا في السلم والحرب، تتعرض للعديد من الانتهاكات الإنسانية من خطف وقتل أو جرائم شرف، بينما يُلقى اللوم عليها وتُحمَّل مسؤولية مشاكل مجتمع لا زال يعاني من التخلف والرجعية، يستحق هذا الموضوع التعمق فيه والبحث عن حلول رغم صعوبتها.
وعلى صعيد رصد الشائعات، يتفق بعض القائمون على منصات التحقق في مواقع التواصل على أن حجم التضليل الذي اجتاح الفضاء الرقمي السوري بعد سقوط نظام الأسد غير مسبوق، ويقول أحمد بريمو، الرئيس التنفيذي لمنصة “تأكد”: “منذ تأسيسنا عام 2016، واكبنا الكثير من الأحداث الكبرى في سوريا والمنطقة، لكن لم نواجه فيضاً من الأخبار المضللة كالذي نشهده اليوم”.
ولا يستبعد بريمو أن يكون وراء هذه الحملات جهات منظمة ترغب بإثارة الفتن، ويضيف أن أحد العوامل التي زادت من انتشار الشائعات هو كسر حاجز الخوف، حيث بات الناس ينشرون دون تردد أو رقابة، إلى جانب غياب المصادر الرسمية بعد سقوط النظام.
من جانبه، أكد بسام الأحمد، المدير التنفيذي لمنظمة “سوريون من أجل الحقيقة والعدالة”، في تصريح إعلامي، أن التضليل الإعلامي هو اليوم أحد أكبر مهددات التماسك الاجتماعي في سوريا، ووصفه بأنه “أداة لزعزعة الاستقرار” لا تقل خطراً عن السلاح، لما تخلقه من توترات وعداوات بين مكونات المجتمع السوري.
أما حمزة حمكي، الرئيس التنفيذي لشركة “True Platform”، فلفت إلى أن كمية الادعاءات الكاذبة التي تلت سقوط نظام الأسد كانت صادمة، حتى بالنسبة لمدققي الحقائق أنفسهم، واعتبر أن اللحظة كانت حساسة جداً ومصيرية، وهو ما جعل التضليل أكثر خطورة.
وكان اللافت -بحسب حمكي- أن وسائل إعلام سورية وعربية وصحفيين وقعوا في فخ التضليل ونشروا معلومات غير دقيقة، خاصة فيما يتعلق بالصراع بين قوات سوريا الديمقراطية “قسد” والمعارضة المسلحة، نتيجة غياب التحقق وضغط السبق الصحفي، كما أكد أن السعي وراء التفاعل، سواء من مستخدمي المنصات أو من وسائل الإعلام، هو من أهم الأسباب التي أسهمت في هذا الواقع، فكل ما يتعلق بسوريا بات يجذب الأنظار، وأي خبر -حتى لو كان كاذباً- يُشارك على نطاق واسع لمجرد أنه يثير الجدل أو المشاعر.
جاك ستابس jack Stubbs، كبير محللي الاستخبارات في شركة “Graphica”، أشار إلى أن الروايات المتداولة عن سوريا على السوشيال ميديا أصبحت جزءاً من صراع جيوسياسي أوسع، حيث تستغل حسابات مرتبطة بالصين الأحداث للترويج لروايات معادية للولايات المتحدة، مثل اتهام “الديمقراطية الأمريكية” بتدمير سوريا، وتضخيم الخطاب المعادي لإسرائيل.
أما أندرياس كريج Andrea craig، الأستاذ في كلية Kings بلندن، فنوّه إلى أن ما يجري يتعدى التضليل ليصل إلى “روايات مسلحة”، حيث تستغل جهات خارجية المخاوف، خاصة لدى “الأقليات”، لتأليب المجتمعات ومنع أي توافق سوري جديد، محذراً من خطورة هذا النوع من التلاعب الذي يثير الانقسامات بطريقة مقصودة.
في النهاية، لا يبدو أن وتيرة الشائعات المتعلقة بالشأن السوري ستنخفض في المستقبل القريب، لذا لا بدّ علينا من التعامل معها بحذر، والتحلي بالوعي والشك البنّاء تجاه كل ما يُنشر، ولا بدّ أيضاً من وجود مصادر رسمية موثوقة تصارح الناس بالحقيقة، وتملأ الفراغ الذي تملؤه الإشاعة اليوم، والتي لن تنتج سوى المزيد من الانقسام والعنف في مجتمع أنهكته الحرب وفقد الكثير من الثقة… إن مسؤولية التصدي لهذا الوباء تقع على الجميع، ولكن العبء الأكبر يقع على صنّاع القرار، الذين بات عليهم التحرك سريعاً لوضع ضوابط واضحة وفعالة، تحمي المجتمع دون أن تمس بحرية التعبير، وتكفل ألا تكون منصات التواصل ساحة حرب حقيقية.
اقرأ أيضاً: الكوكب يزداد قسوة: مناخ متحوّل وسوريا منسية في تقارير الإنصاف العالمي