لطالما كانت السينما نافذة على البلاد التي تخرج منها، ونافذة للبلاد التي تطل عليها، والسينما السورية تحديداً في مطلعها كانت نافذة للسوريين تحاكي أحلامهم وتجسد واقعهم دون تجميل.
منذ بداياتها في ستينات القرن الماضي، شكلت السينما في سوريا مرآة فنية عكست التراث الثقافي السوري، كما صدرته للخارج. وكون السينما بطبيعتها تشكل انعكاس الشعوب فقد تأثرت السينما في سوريا بكل المنعطفات السياسية والتحولات الاجتماعية التي عصفت بالبلاد.
وتميزت بالتنوع والاختلاف والإبداع، فتنوع انتاجها بين الأفلام الروائية والوثائقية، وبين طرح القضايا الاجتماعية وعرض القصص الملهمة، وجعلت من السوريين سفراء لرسالتها السورية الأصيلة، سواء من حيث التمثيل أو الإخراج، فمنها انطلقوا للنجاح الدولي وحصدوا الجوائز في المهرجانات السينمائية العالمية.
تاريخ السينما السورية
كانت من أوائل الحركات السينمائية في المنطقة العربية، حيث بدأت السينما السورية تتبلور وتنشأ في مطلع القرن العشرين، وعرفت سوريا السينما في عام 1908. وكانت أول عروض سينمائية تقام في مدينة حلب، ومن ثم بعد أربع سنوات في دمشق عام 1912.
هذا الفن الراقي القادم من وراء البحار جذب الشباب السوري لما شكله من انعكاس لمجريات الحياة والتعبير الحر عن الواقع المعاش، فبدء على إثر ذلك تصوير أول فيلم سينمائي سوري في العام 1927.
أطلق على أول فيلم سينمائي سوري اسم “المتهم البريء” وتم تصويره خلال 8 شهور ولقد بذل القائمين على إنتاجه الكثير من الجهد.
كان من إنتاج شركة حرمون فيلم لمؤسسها رشيد جلال وشركاءه في دمشق، وبلغ طول شريطه 800 متر، حيث جرى الانتهاء من تصويره في العام 1928 وتم عرضه في سينما الكوزموغراف في ساحة المرجة بدمشق، وبذلك شكل انطلاقه قوية للسينما السورية.
تتالى تصدر الأفلام السورية المختلفة سنة تلو الأخرى، ففي العشرينات تصدر فيلم عن رئيس الدولة السورية (أحمد نامي) وحصل على جائزة في المعرض الصناعي بدمشق، أما في الثلاثينات فقد اعتلى فيلم تحت سماء دمشق من إخراج نجدت أنزور شباك التذاكر.
إلى أن جاءت الخمسينات وقامت الدولة بدعم السينما كوسيلة إعلامية فاعلة في العام 1951، وتم تأسيس قسم متخصص للسينما يهتم بأمور السينما السورية، إلى جانب إطلاق جريدة سينمائية مصوره تصدر بشكل اسبوعي بدمشق مكرسه لأخبار السينما والسينمائيين في سورية.
وكانت ذروة الإنتاج السينمائي السوري في مرحلة الستينات والسبعينات، تم انتاج عدد كبير من الأفلام آنذاك ويرجع ذلك لظهور المؤسسة العامة للسينما التي أنتجت ما يزيد عن 300 فيلم متنوع كان له فرصة الحضور في المهرجانات الدولية والعربية.
أهم ما يميز تلك المرحلة ظهور نجوم الشباك كدريد لحام ونهاد قلعي، وقد وصل عدد دور السينما في سورية عام 1963 إلى 120 دار سينما ويطلق على تلك المرحلة العصر الذهبي للسينما السورية.
بحلول الثمانينات كان للسينما السورية حضور لافت وقدمت العديد من الأفلام التي حصدت الجوائز الأولى في المهرجانات العربية والعالمية مثل فيلم “أحلام المدينة” مع حصول العديد من المخرجين والفنانين على جوائز في مختلف المهرجانات السينمائية.
استمرت عجلة الإنتاج السينمائي في التسعينات ولكن بوتيرة أقل تسارعاً وكان نجم تلك الفترة فيلم “رسائل شفهية”، وصولاً لفترة الألفية حيث أكملت السينما مسيرتها وتابعت انتاج العديد من الأفلام الممتازة.
اقرأ أيضاً: أفلام “الحرب السورية” تلهب حماس العسكريين وصناع السينما في روسيا
السينما السورية في ظل الثورة
عاشت السينما صراع مع الرقابة منذ عقود من الزمن، وكان من المفترض أن تكون المنفذ التعبيري الحر الذي يعكس الواقع كما هو دون تزييف أو تحريف أو سرديات، لكن في ظل الرقابة الشديدة المفروضة على السينما قبل الثورة، واجهت تحديات كبيرة وصراعات مستمرة مع الرقابة واصطدمت في كثير من الأحيان بالتدخل الحكومي.
فكانت الرقابة تفرض على كامل الفيلم من الألف إلى الياء، من أول كلمة بالسيناريو وحتى آخر مشهد مصور، ومن بعدها تتحكم بالقرار ما إذا كان الفيلم يستحق العرض في صالات السينما أو أن ينال المشاركات الخارجية سواء عربياً أو دولياً.
لكن مع بداية الثورة كسرت السينما القيود المفروضة عليها وتحررت من التعتيم وتقليص الإبداع ليناسب سردية النظام الحاكم، على إثره قد أبصرت الأفلام السورية النور بعد عام 2011، ووثقت بذلك أهوال الحرب وقدمت محتوى إنساني حر أثر بشرائح واسعة من الجماهير، وحصدت بذلك التقدير والتكريم في العشرات من المهرجانات السينمائية حول العالم.
لعل أبرزها الفيلم السوري “نزوح” الذي حصد جائزة تصويت الجمهور في مهرجان فينيسيا السينمائي في العام 2022.
حملت السينما السورية في فترة الثورة كاهل الحرب وأثقالها، وكانت بذلك حاضنة للذاكرة السورية بكل جنباتها وما حُملّت من ألم معاناة وقهر. فسطرت بذلك لحظات مقدسة أحيت بالسوريين شعور الانتماء للسينما الخاصة بهم بعد عقود من الانسلاخ عن الواقع وعن أوجاعهم.
فكان لفيلم “ماء الفضة” بصمة خاصة في مهرجان كان السينمائي الدولي لمخرجه أسامة محمد، وما يميز هذا الفيلم تصويره لقسم من مشاهده من قبل الحمصية “وئام بدرخان” أثناء محاصرتها مع أبناء مدينتها حمص.
هذا الفيلم الذي يحكي سيرة الثورة السورية ويختزلها من بداية مظاهرات درعا عام 2011 وصولاً لتجربة الحصار في حمص.
ورافقت تلك الفترة ظهور العديد من الأعمال السينمائية مثل “حيطان سراقب” والذي شارك في مهرجان روتردام الدولي، يتميز هذا الفيلم بطابعه الوثائقي الفريد حيث أضاء على روايات الصمود والبقاء، وكيف لنا نسيان فيلم “العودة إلى حمص” من توقيع طلال ديركي الذي ناقش تأثير الحرب على الأسر والمجتمعات.
حلقت السينما السورية في فترة الثورة إلى أن وصلت للترشيح لجائزة الأوسكار في العام 2019 من خلال فيلم “إلى سما” للمخرجة السورية وعد الخطيب الذي سلط الضوء على القضايا الاجتماعية والصراعات الإنسانية في البلاد.
بالمقابل، جرى في مناطق سيطرة النظام إنتاج العديد من الأفلام، والتي هاجمها كثيرون بأنّه سُمح لها بالوجود فقط لتخدم سرديته وتوثقها، بينما دافع عنها أصحابها بأنّها أعمال فنيّة تجسّد الواقع كما يرونه هم.
فيلم “مطر حمص” أحد تلك الأفلام والذي يروي حصار عدد من السوريين في المدينة القديمة في حمص ويحاكي محاولتهم النجاة والحياة وسط الموت والدمار أنتج في العام 2017. أيضاً فيلم “رحلة يوسف” للمخرج جود سعيد، والذي حصد الجائزة الذهبية عن أفضل فيلم روائي في مهرجان هيومان رايتس في تونس عام 2023، وتدور قصته حول جد يحمل حفيده بحثاً عن حياة أفضل بين الركام والدمار.
اقرأ أيضاً: تيم حسن وسامر البرقاوي: نسخة سورية من نولان وكيليان مورفي!
أبرز المهرجانات السينمائية في سوريا
مهرجان دمشق السينمائي الدولي الذي كان يقام سنوياً في دمشق، ويعتبر من أهم المهرجانات السينمائية والدولية، أسسه المخرج السينمائي الراحل محمد شاهين، وشاركت فيه العديد من الدول العربية والأجنبية من مختلف القارات في العالم.
لكن توقف المهرجان بسبب الصراع في العام 2012، وبعد مضي 13 عاماً على الغياب متى العودة؟
يبقى هذا السؤال في الأذهان يتردد، هل سيعود لدمشق ألقها السينمائي؟ وتكون حاضنة الفنون ودرتها بعد التحرير، هل سيبصر مهرجان دمشق السينمائي النور مجدداً، لكن هذه المرة بطعم الحرية.
ختاماً، السينما السورية هي هوية المجتمع السوري الحر المناضل، الذي رفض محاولات الطمس والتعتيم، فمثلت هذه السينما روح الشعب السوري على مدى عقود. خاضت مثله الصراعات وعبرت الظلام نحو النور وها هي الآن تتنفس الحرية.
اقرأ أيضاً: رشا عمران: في مسألة “خيمة 56”