الكاتب: أحمد علي
شهدت سماء مدينة دمشق يوم أمس تحليقاً مكثفاً لعشرات الطائرات المُسيّرة التابعة للعدو «الإسرائيلي» على ارتفاعات منخفضة فوق العاصمة ومحيطها. ويمثّل هذا الانتهاك العلني للمجال الجوي خرقاً صارخاً للقواعد الدولية التي تؤكد سيادة الدول على أجوائها ومنع اختراقها دون إذن أو تصريح. وتأتي هذه الحادثة ضمن تصاعد في وتيرة خروقات الدرونات والمسيرات «الإسرائيلية» للأجواء السورية، مما يسلط الضوء على الدور المتنامي للطائرات دون طيار في الصراعات الحديثة وتحديها لمبادئ السيادة والقانون الدولي.. في هذا المقال نناقش الأمر بكثير من التفاصيل وصولاً لتكوين صورة عامة شاملة والإجابة على سؤال: كيف يمكن لسوريا تطوير قدرات درون خاصة بها؟
تطور استخدام الدرونات العسكرية عالمياً
على الصعيد الدولي، برزت الطائرات دون طيار (الدرونات) كسلاح متعدد الأدوار تتسابق على امتلاكه الدول والجماعات المسلحة، متسارع الأهمية مع تقدم تطويرها وحيازتها وتصديرها. فقد أدخل انتشار الدرونات توازنات جديدة ومقلقة في الحروب الحديثة لدى العديد من الدول، بعد أن أثبتت كفاءتها القتالية والاستطلاعية كجزء من الأسلحة الأساسية الفعّالة في ساحات المعارك حول العالم.
تستخدم الجيوش اليوم هذه المنظومات لأغراض شتى تشمل الاستطلاع والمراقبة والهجمات الدقيقة عن بُعد، مستفيدة من قدرتها على الوصول لأهداف عميقة دون تعريض الطيارين لأي خطر. وقد أدى التقاطع بين دقة الذخائر الحديثة وصعود تقنيات الروبوتات والذكاء الاصطناعي إلى تعزيز الكفاءة التشغيلية للدرونات بشكل كبير، مما جعلها أداة حاسمة في الحروب المعاصرة. على سبيل المثال، شهدت الحرب في أوكرانيا خلال العامين الماضيين استخداماً غير مسبوق للدرونات المتطورة في الصراع، الأمر الذي أدخل الحروب الجوية حقبة جديدة. كما كان للطائرات المسيّرة دور حاسم في نزاعات إقليمية أخرى، مثل حرب ناغورنو كاراباخ 2020 التي ساهم فيها الأسطول الدروني المتقدم في ترجيح كفة إحدى الأطراف عبر الاستطلاع المستمر والضربات الدقيقة. وبشكل عام، تؤكد هذه التطورات أن الدرونات غيّرت معادلات الحروب التقليدية عبر توفير قوة جوية مستدامة منخفضة التكلفة نسبياً وعالية الفعالية.
تنامي القدرات الإقليمية في مجال الدرونات (تركيا والسعودية نموذجاً)
لم يقتصر انتشار التكنولوجيا الدرونية على القوى الكبرى؛ فخلال السنوات الأخيرة استطاعت دول إقليمية بارزة تحقيق قفزات نوعية في تطوير وتشغيل الدرونات العسكرية. وتعد تركيا من أبرز الأمثلة؛ إذ انتقلت من بلد مستورد للطائرات بدون طيار إلى أحد روّاد تصنيعها عالمياً. فبعد أن كانت أنقرة تعتمد على استيراد مسيّرات استطلاع «إسرائيلية» من طراز هيرون عام 2010، تبنّت نهجاً طموحاً للإنتاج المحلي منذ 2014. ونجحت شركات تركية مثل بايكار والصناعات الجوية التركية (TAI) في تطوير سلسلة من الدرونات المقاتلة المتقدمة، أبرزها بيرقدار TB2 متوسطة الارتفاع والطويلة المدى، ودرون أنكا-S للاستطلاع والهجوم.
دخلت بيرقدار TB2 الخدمة ضمن القوات المسلحة التركية منذ 2014 وشكّلت العمود الفقري لأسطول الدرونات التركي مع عشرات الوحدات العاملة. وقد حققت هذه الطفرة التقنية مكاسب إستراتيجية واقتصادية لتركيا، حيث فتحت المسيّرات التركية المُطوَّرة والمسوَّقة على نطاق واسع آفاقاً جديدة لتطوير باقي الصناعات الدفاعية المحلية، ووفرت بنية تحتية تقنية وخبرات بشرية مستدامة عبر تعاون وثيق بين القطاعين العام والخاص. والأهم أن صادرات الصناعات الدفاعية والطيران التركية بلغت في عام 2024 حوالي 7.15 مليار دولار بزيادة 29% عن عام 2023 – وهي أرقام قياسية يعود جزء كبير منها إلى الطلب العالمي على المسيّرات التركية.
في المقابل، برزت المملكة العربية السعودية كمشترٍ ومطوّر ناشئ للتقنية الدرونية عبر مزيج من الاستيراد والاستثمار الداخلي. اعتمدت الرياض في بداية الأمر على شراء طائرات بدون طيار جاهزة من الخارج، فقامت في 2014 بالحصول على مسيّرات صينية الصنع من نوع CH-4 وكذلك عدد من درونات Wing Loong II المسلحة الأثقل والأبعد مدى.
ورغم امتلاكها إحدى أقوى القوات الجوية التقليدية في المنطقة، نظرت السعودية إلى القدرات الدرونية كسلاح إضافي مكمل لسلاح الجو. وقد أعلنت خططاً طموحة لتصنيع دروناتها المسلحة محلياً عبر الحصول على تراخيص تقنية من الصين؛ حيث حصلت على ترخيص من شركة CAIG الصينية لإنتاج ما يصل إلى 300 طائرة Wing Loong وربما الطراز الأحدث CH-5 داخل المملكة. وإلى جانب التعاون الصيني، اتجهت الرياض مؤخراً للشراكة مع تركيا في هذا المجال ضمن إطار تنويع مصادر التسلح ونقل التقنية.
ففي عام 2023 وقّعت السعودية صفقة ضخمة مع شركة بايكار التركية للحصول على درونات متقدمة (وُصفت بأنها أكبر عقد دفاعي في تاريخ تركيا)، تلاها اتفاق إستراتيجي على توطين تصنيع تلك المسيرات داخل المملكة. كما أبرمت الشركة السعودية للصناعات العسكرية (SAMI) مذكرات تفاهم مع شركات تركية أخرى مثل أسيلسان لتطوير الإلكترونيات الدفاعية محلياً. هذه الشراكات تعكس توجّه السعودية نحو بناء قاعدة صناعة درونات وطنية، سواء عبر التصنيع المشترك أو تعزيز قدرات شركات محلية ناشئة.
وقد بدأت بالفعل بعض الشركات السعودية بإنتاج نماذج درونات محلياً؛ على سبيل المثال أكدت شركة Serb للصناعات المتقدمة خلال معرض الدفاع العالمي 2024 في الرياض أنها شرعت في الإنتاج الكمي لطائرات بدون طيار صغيرة لصالح الجيش السعودي. وهكذا، تجمع الإستراتيجية السعودية بين شراء أحدث المنظومات جاهزةً وبين محاولة امتلاك المعرفة التصنيعية عبر اتفاقيات الشراكة ونقل التكنولوجيا.
كيف يمكن لسوريا تطوير قدرات درون خاصة بها؟
في ظل ما سبق، يبرز التساؤل حول خيارات سوريا لتطوير قدرات طائرات بدون طيار محلية في المستقبل، خاصة إذا استعادت الاستقرار وتمكنت من بناء جيش حديث يمتلك التكنولوجيا المتقدمة. فعلى الرغم من أن القدرات السورية اليوم يفتقر إلى منظومات درون متطورة خاصة به، إلا أن التجربة السورية خلال سنوات الحرب أفرزت بعض المؤشرات على إمكانية سد هذه الفجوة مستقبلاً. فقد ظهرت داخل سوريا محاولات محدودة لتطوير مسيّرات بدائية محلياً، أبرزها مشروع طائرة «شاهين» المسيّرة التي صنعتها فصائل المعارضة المسلحة في الشمال السوري. ورغم تواضع قدرات الشاهين مقارنة بالمسيرات الاحترافية، إلا أن ظهورها ربما مؤشراً على توفر عقول وخبرات تقنية داخل البلاد قابلة للتطوير إذا توفرت الرعاية والدعم التقني الملائم.
على المدى المنظور، تستطيع سوريا – في حال توافر الإرادة السياسية والموارد المالية – اتباع عدة مسارات متوازية لاكتساب قدرات الدرون. أولاً: خيار التعاقد أو التحالف مع دول صديقة تمتلك خبرات رائدة في هذا المجال. فقد أظهرت تركيا استعدادها لتصدير مسيراتها لدول المنطقة وتوقيع اتفاقات توطين إنتاج. لذلك قد لا يكون من المستبعد أن تنظر أنقرة في تزويد دمشق بمسيّرات أو المساهمة في برامج تطوير مشتركة.
ثانياً: هناك دول يمكن إعادة فتح المسارات معها مثل إيران، فإيران مثلاً راكمت خبرة طويلة في تصنيع طائرات بدون طيار متنوعة، طوّر خلالها أكثر من 40 نوعاً من المسيّرات خلال السنوات الأخيرة، وقام فعلياً بتزويد حلفائه الإقليميين ببعض هذه التقنيات. وبناءً على ذلك، يمكن لدمشق أن تسعى للحصول على مسيرات إيرانية الصنع بشكل مباشر (مثل طرازات مهاجر وأبابيل وشاهد)، أو عقد اتفاقات شراكة مع طهران لنقل خطوط إنتاج بعض هذه المنظومات إلى الداخل السوري إن أمكن.
ثالثاً: التعاون التقني مع روسيا والصين. تمتلك موسكو وبكين برامج درون عسكرية متقدمة وقد أبدتا انفتاحاً على تصديرها أو تصنيعها لدى حلفائهما. يمكن لسوريا الاستفادة من علاقاتها مع هاتين الدولتين لطلب منظومات استطلاع وقتال غير مأهولة – سواء عبر الشراء المباشر أو السعي إلى شراكات تصنيع مشترك على نطاق محدود.
وأخيراً، رابعاً: البناء الذاتي التدريجي لقدرات البحث والتطوير المحلية. هذا المسار الأصعب ولكنه الأكثر استدامة، ويتطلب استثماراً طويل الأمد في تأهيل كوادر علمية وهندسية سورية، وإقامة شراكات مع مراكز أبحاث وشركات دولية، وربما الاستفادة من الخبرات السورية في المهجر. لكن التحدي يكمن في توفير الموارد المالية والبيئة المستقرة لتزدهر هذه الجهود التقنية، فضلاً عن تفادي العقوبات والعوائق التي قد تفرضها الدول المعادية لمنع سوريا من امتلاك هذا النوع من التقنيات المتقدمة.
مقارنة تجارب دول نجحت في بناء الدرونات والمسيرات
لمعرفة السبل المتاحة أمام سوريا لبناء قدرات المسيّرات، قد يكون من المفيد استعراض نماذج من دول نجحت فعلاً في إنشاء قطاع درون عسكري متكامل، مع التركيز على أساليب التمويل ونقل التقنية والشراكات التي تبنتها تلك الدول. سنستعرض هنا باختصار تجربتي تركيا وبولندا والإمارات العربية المتحدة كنماذج مختلفة في ظروفها وإستراتيجياتها.
تركيا كنموذج دولة متوسطة طورت قطاع درون رائد
اتبعت تركيا استراتيجية شاملة جمعت بين الدعم الحكومي القوي والابتكار من قِبل القطاع الخاص. فبعد أن اصطدمت برفض أمريكي لتزويدها بطائرات MQ-1 المسلحة، ركزت على الحلول المحلية. وبحلول 2014، كانت قد أدخلت الخدمة فعلياً أولى طائراتها المسلحة بيرقدار TB2 تلتها أنكا-S. لعبت الحكومة التركية دور المموّل والمنسّق عبر رئاسة الصناعات الدفاعية، وشجّعت المنافسة والتنوع داخل الصناعة الواحدة.
كما نجحت في إبرام عشرات الصفقات لتصدير المسيّرات إلى آسيا وإفريقيا وأوروبا، مما وفر عائدات مالية أعيد ضخها في البحث والتطوير. ورغم نجاحها، لا تزال بعض المكونات الحساسة مستوردة، لكنها سدت جزءاً من هذه الثغرات بتطوير محركات ومستشعرات محلية.
بولندا كنموذج دولة أوروبية صغيرة طموحة
ضاعفت بولندا إنفاقها الدفاعي وخصصت جزءاً معتبراً منه لتحديث جيشها بأنظمة غير مأهولة. تبنت إستراتيجية مزدوجة: شراء منظومات جاهزة متطورة من الحلفاء مع تنمية قاعدة صناعية وطنية للدرونات. وأطلقت وزارة الدفاع البولندية برنامجاً باسم “جلياديوس” لتزويد قواتها بوحدات متكاملة من الدرونات الانتحارية والاستطلاعية محلية الصنع. كما استفادت من نقل المعرفة ضمن الناتو واكتسب جنودها خبرة عملية في تشغيل المسيرات.
الإمارات العربية المتحدة كنموذج دولة خليجية تستثمر في التقنيات المتقدمة
بدأت الإمارات مطلع الألفية باستثمارات جريئة في صناعة الطيران غير المأهول، فأنشأت شركات محلية مثل ADCOM Systems التي طورت سلسلة درونات أبرزها يبهون 40. وأنشأت أيضاً شركات قابضة مثل مجموعة EDGE ووضعت تحت سقفها شركات عديدة متخصصة، كما دخلت في مشاريع مشتركة مع شركات عالمية. واستفادت الإمارات أيضاً من علاقتها بالولايات المتحدة للحصول على أحدث التقنيات الغربية.
هل نشهد في المستقبل القريب ولادة برنامج درون سوري طموح بدعم من الحلفاء؟ أم أن الواقع الميداني والضغوط الدولية سيجعلان سوريا تكتفي بالاحتماء بمظلة دفاع جوي تقليدية؟ تلك تساؤلات مفتوحة، والإجابة عليها رهنٌ بتطورات السنوات القادمة. ما يمكن الجزم به هو أن عصر الحروب المسيّرة قد بدأ بالفعل، وأن الدول التي تتخلف عن ركوبه ستجد نفسها أكثر عرضةً للابتزاز والانتهاك لسيادتها.
اقرأ أيضاً: صحنايا: اتفاق «هشّ» بعد يوم دامٍ هدد السلم الأهلي.. ماذا جرى؟!