حين يُذكر الخط الحجازي الحديدي، لا نتحدث فقط عن سكةٍ من حديد امتدت بين دمشق والمدينة المنورة، بل عن حلمٍ سياسي وديني واقتصادي وُلد على قضبان الإمبراطورية العثمانية. مشروعٌ أراده السلطان عبد الحميد الثاني أن يكون جسرًا بين أطراف الأمة الإسلامية، يحمل الحجيج من بلاد الشام إلى الحرم، وينقل السلطة من المجهول إلى الممكن. لكن ما بدأ كملحمة هندسية بين الرمال والتلال، انتهى اليوم كسطر مهمل في دفاتر الموازنات، قطار لم يعد يرى السكة، ومشروع يتنفس فقط من ذاكرة التاريخ. وبين صدى الماضي ووعود المستقبل، تُطرح الأسئلة: هل يُمكن لقطار القرن العشرين أن يعود إلى الحياة؟ وهل نملك الإرادة التي امتلكها أجدادنا حين وضعوا أول حجر على طريق الحجاز؟
الخط الحجازي الحديدي: النشأة والطموح
في عام 1900، أطلق السلطان العثماني عبد الحميد الثاني مشروع الخط الحديدي الحجازي، الذي كان يهدف إلى تسهيل رحلة الحجاج المسلمين إلى مكة المكرمة والمدينة المنورة، وتقوية السيطرة العثمانية على المناطق النائية في شبه الجزيرة العربية. بدأت الأعمال من دمشق ومزيريب في آنٍ واحد، ووصل أول قطار إلى المدينة المنورة في 22 أغسطس 1908، مقلصاً مدة الرحلة من أربعين يوماً إلى خمسة أيام فقط.
امتد الخط الرئيسي لمسافة 1320 كيلومتراً من دمشق إلى المدينة المنورة، مع فرعٍ يصل إلى حيفا على البحر الأبيض المتوسط. وواجه المشروع تحدياتٍ كبيرة، منها التضاريس الوعرة ونقص الموارد، ما استدعى بناء جسورٍ وأنفاقٍ عديدة، واستخدام تقنياتٍ متقدمة في ذلك الوقت.
إلى جانب تسهيل الحج، كان للخط الحديدي الحجازي أهدافٌ سياسية، منها تعزيز الوحدة الإسلامية تحت راية الخلافة العثمانية، ومواجهة النفوذ الأوروبي المتزايد في المنطقة. كما سعى المشروع إلى تقوية الاقتصاد المحلي من خلال ربط المدن والمناطق الزراعية بالمراكز الحضرية.
لكن، لم يخلُ الخط من التحديات، فقد تعرض لهجماتٍ متكررة من قبل القبائل البدوية التي رأت فيه تهديداً لمصالحها، وخلال الثورة العربية الكبرى (1916-1918)، أصبح هدفاً رئيسياً للثوار، مما أدى إلى تعطيل أجزاءٍ كبيرة منه.
الوضع الحالي وآفاق المستقبل
بعد عقودٍ من الإهمال والتدمير، بدأت جهودٌ لإحياء الخط الحديدي الحجازي، خاصةً في سوريا والأردن. في سوريا، تم إنشاء المؤسسة العامة للخط الحديدي الحجازي عام 1964، وتمت إعادة تشغيل بعض الأقسام، مثل خط دمشق-عمان. كما أبدت تركيا اهتماماً بإعادة تأهيل الخط كجزءٍ من مبادرةٍ إقليمية لتعزيز التجارة والسياحة.
ومؤخراً، أوضح المدير العام للمؤسسة العامة للخط الحديدي الحجازي، محمد العجمي، أن سكة القطار التي تربط الحدود السورية الأردنية بمحطة القدم في دمشق، لا تزال غير جاهزة للتشغيل، وذلك نتيجة تراكمات من الإهمال والفساد الإداري الذي طال المؤسسة على مدار سنوات سابقة.
وفي تصريح أدلى به لصحيفة «الوطن» السورية، أشار العجمي إلى أن القطارات التابعة للخط لم تُستخدم منذ عام 2004، رغم تسجيل نفقات ضخمة على أعمال صيانة وتجديدات يُشتبه أنها لم تتعدَ الطابع الورقي، دون تنفيذ فعلي على الأرض. ولفت إلى أن آخر رحلة فعليّة سُيّرت عبر هذا الخط تعود إلى عام 2010، لتتوقف لاحقاً نتيجة سلسلة من الأضرار التي لحقت بالبنية التحتية، أبرزها تفجير الجسور وقصفها، إضافة إلى تضرر العربات وتوقّف حركة القطارات من الجانب الأردني.
وأكد العجمي أن مراجعة الموازنات الخاصة بالمؤسسة كشفت عن اعتمادات مالية صُرفت تحت بند صيانة الخط، لكنها لم تُترجم إلى أعمال ملموسة. وبعد تحرير بعض المناطق، قامت المؤسسة بإرسال لجان فنية ميدانية لتقييم الأضرار، فتبيّن أن الخراب شمل أكثر من 40 كيلومتراً من أصل 132 كلم تشكل مسار السكة بين دمشق والحدود الأردنية. كما تبيّن فقدان أجزاء رئيسية من البنى التحتية لعناصر التثبيت، ما يجعل من إعادة التأهيل مهمة صعبة ومعقدة، لاسيما مع ندرة المواد والقطع الفنية اللازمة.
وأشار المدير العام إلى أن خطة العمل المطروحة حالياً تشمل إطلاق ورشات الصيانة تدريجياً، بدءاً من دمشق، فيما تُعالج محطات القطار لاحقاً، نظراً إلى أن إصلاحها يستلزم جهداً مزدوجاً يتناول أولاً المسارات، ثم المنشآت. وأوضح أن الخط في وضعه الحالي يقتصر على خدمة نقل البضائع، وأن أي عودة لتسيير القطارات الركابية مشروطة بتأمين متطلبات الأمان الفني والمالي واللوجستي.
اقرأ أيضاً: تدمر بين أنقاضها: ذاكرة حجرية تبحث عن حياة جديدة!
وبحسب تقديراته، فإن توفير الظروف الملائمة قد يسمح بإنجاز الصيانة خلال نحو 18 شهراً، ما يُمكّن من إعادة تشغيل الخط ما بين الحدود الأردنية ومحطة القدم. لكنه أشار إلى أن القطارات السورية لن تكون قادرة على السير عليه في المدى المنظور، ما لم يتم استئجار قاطرات من الخارج، أو اقتناء أخرى في مرحلة لاحقة. أما كلفة التأهيل الكاملة، فقال إنها لا تزال غير محددة، وستُقدّر لاحقاً بعد انتهاء جميع الأعمال الفنية.
وفيما يتعلق بإمكانية تطوير مسار السكة، بيّن العجمي أن ذلك غير وارد في الوقت الراهن، نظراً لأن الخط ينتمي إلى نوع «السكك الضيقة»، وهي نفسها المستخدمة في الأردن، وبالتالي فإن أي مشروع لتحديثه لا يمكن تنفيذه بشكل منفصل عن الدول الأخرى التي يمر بها، مما يستلزم توافقاً عربياً مشتركاً إذا ما طُرحت أي مبادرة بهذا الاتجاه.
أما عن احتمال تمديد الخط ليصل إلى منطقة الزبداني، فأوضح العجمي أن الأمر غير مطروح، بسبب وجود مشاكل في الأنفاق داخل العاصمة دمشق، فضلاً عن غياب الجدوى الاقتصادية للمشروع. إلا أنه أشار إلى إمكانية الاستفادة من هذا المسار في المستقبل ضمن إطار السياحة الداخلية، شريطة الانتهاء من أعمال الصيانة الأساسية.
وبخصوص مشروع «قطار الضواحي»، نفى العجمي وجود أي عروض استثمارية حالياً، سواء من الداخل أو الخارج، لكنه أكد أن المؤسسة تفتح الباب أمام أي مبادرات جدية، خصوصاً أن هذا المشروع يمكن أن يُحدث نقلة نوعية في قطاع النقل إذا ما تم تنفيذه وفق استراتيجية حديثة تسهم في تقليص زمن الرحلات وتخفيف الضغط عن شوارع المدن.
تجارب حديثة: السعودية نموذجاً
في المقابل، تُظهر المملكة العربية السعودية نموذجاً حديثاً في تطوير السكك الحديدية، حيث شهدت استثمارات ضخمة في هذا القطاع ضمن رؤية 2030 التي كانت قد أشارت إليها بعض التصريحات الصادرة عن مسؤولي الحكومة السورية الحالية. فعلى سبيل المثال، نقلت الخطوط الحديدية السعودية «سار» أكثر من 13 مليون راكب خلال عام 2024، بزيادة بنسبة 22% مقارنة بعام 2023، كما تم نقل أكثر من 28 مليون طن من البضائع والمعادن، مما يعكس التطور المستمر الذي يشهده قطاع الخطوط الحديدية في المملكة ودوره الحيوي في دعم الاقتصاد الوطني وتعزيز الخدمات اللوجستية.
كما أسهمت «سار» عبر قطار المشاعر المقدسة في نقل أكثر من مليوني حاج خلال موسم حج 1445هـ، ما أسهم في تخفيف الضغط على وسائل النقل البري وإثراء تجربة ضيوف الرحمن. وفيما يتعلق بمعايير الجودة والسلامة، حصلت «سار» على 6 شهادات اعتماد دولية تؤكد التزامها بتطبيق أعلى معايير الكفاءة التشغيلية والأمان في قطاع الخطوط الحديدية.
أخيراً، يُعد الخط الحجازي الحديدي مثالاً حياً على التحديات التي تواجه مشاريع البنية التحتية التاريخية في العالم العربي. فبينما يُنظر إليه كرمز للوحدة الإسلامية والنهضة الوطنية، فإن الواقع الحالي يكشف عن فجوة كبيرة بين الإرث والواقع. الإهمال الإداري، والفساد، وغياب الرؤية الاستراتيجية، كلها عوامل ساهمت في تدهور هذا المشروع الحيوي، على أمل أن تحمل قادمات الأيام خطوات كبيرة تعيد لهذا المشروع ألقه ودوره.
اقرأ أيضاً: صيدنايا: مدينة القداسة والتاريخ.. لا سجن الرعب والدماء!