بعد أكثر من عقد على الصراع، تشهد سوريا اليوم مرحلة انتقالية جديدة ترافقت مع تغيرات سياسية واقتصادية عميقة، ورغم التطلعات بتحسن الأوضاع، لا تزال مؤشرات الاقتصاد تعكس واقعاً معقداً، من أبرز جوانبه أزمة البطالة التي باتت من التحديات الأساسية التي تواجه المجتمع السوري… فالبطالة -لا سيما بين فئة الشباب- هي إحدى القضايا الأساسية التي تعكس اختلالات سوق العمل وركود النشاط الاقتصادي في البلاد، وتعود جذور هذه الأزمة في سوريا إلى ما قبل سنوات الصراع، إلّا أن تداعيات الحرب فاقمتها بشكل كبير وكشفت عمق هشاشتها، ما جعلها تتحول إلى معاناة يومية يعيشها آلاف الشباب الذين يبحثون عن فرص شبه معدومة، في سوق عمل مشلول واقتصاد يحاول التقاط أنفاسه.
وفي هذا التقرير سنستعرض واقع البطالة في سوريا ومراحل تطورها قبل الحرب وخلالها، إلى جانب طرح عدد من آراء الخبراء في هذا الشأن وتحليلهم لهذه الأزمة.
البطالة في سوريا بين الماضي والحاضر
شهدت معدلات البطالة في سوريا تفاوتاً ملحوظاً بين الماضي والحاضر، إذ سجّل أدنى مستوى لها في عام 1991 بنسبة بلغت 6.8%، وخلال عامي 2003 و2010، حافظ معدل البطالة على استقرار نسبي بحدود 8%، إلّا أن تفاوت الأرقام بين المحافظات أظهر أن اللاذقية والحسكة وطرطوس سجلت أعلى معدلات بطالة في عام 2010 بنسبة تقارب 16%.
وأشار تقرير بعنوان التحديات التنموية في الدول العربية الصادر عن برنامج الأمم المتحدة الإنمائي (UNDP) عام 2011، إلى أن معدل البطالة بين النساء في سوريا بلغ نحو 22% في عام 2010، وهو من أعلى المعدلات في المنطقة العربية، كما صاحب ارتفاع البطالة انخفاض في معدلات المشاركة في سوق العمل، وضعف في قدرة الاقتصاد على خلق فرص عمل جديدة، ما ساهم في تعميق الأزمة.
أما خلال سنوات الحرب، فقد ارتفعت معدلات البطالة بشكل ملحوظ نتيجة تأثر مختلف القطاعات الاقتصادية والخدمية، وخاصة قطاعي الزراعة والصناعة، فدمار المصانع والمنشآت الصناعية، وخروج مساحات واسعة من الأراضي الزراعية عن الخدمة، خصوصاً في شمال وشرق البلاد، أدى إلى تقلص فرص العمل بشكل خطير.
وفي العام الماضي، كشف تقرير صادر عن المكتب المركزي للإحصاء، استناداً إلى مسح قوة العمل لعام 2022، أن حجم قوة العمل في سوريا بلغ نحو 5.96 ملايين شخص، أي ما يعادل 26% من إجمالي عدد السكان المقدّر حينها بـ23.2 مليون نسمة، وهذا يشير إلى تراجع بنسبة 9% مقارنة بعام 2010، حين بلغ عدد قوة العمل حوالي 6.5 ملايين شخص.
في المقابل، شهد القطاع الحكومي زيادة طفيفة في عدد العاملين خلال العام نفسه، إذ بلغ عدد الموظفين فيه نحو 1.44 مليون شخص، بزيادة بلغت 6.46% عن عام 2010.
وتظهر الإحصاءات الرسمية كذلك تفاوتاً واضحاً في معدلات البطالة بين الريف والمدينة، إذ يسجل الريف معدلات أعلى… وبحسب بيانات الإحصاء، فإن فئة الشباب بين 15 و24 عاماً تمثل النسبة الأكبر بين العاطلين عن العمل، إذ يشكلون نحو 72.3% من مجموع العاطلين، رغم أن حصتهم من السكان لا تتجاوز 22.8%..
ورغم غياب إحصاءات رسمية محدثة منذ نهاية العام الماضي عقب سقوط نظام الأسد، إلا أن المؤشرات الحالية تعكس حالة من الترقب القلق في سوق العمل، وسط تطلعات بتحسن تدريجي يرتبط بمستقبل الاستقرار الاقتصادي والسياسي في البلاد.
اقرأ أيضاً: زراعة النخيل في سوريا: هل تستعيد رونقها وتنهض من جديد؟
أسباب ارتفاع نسبة البطالة
يوجد أسباب معقدة ومتشابكة أدت إلى ارتفاع نسبة البطالة في سوريا، تتراوح بين عوامل اقتصادية واجتماعية وسياسية وإدارية، تفاقمت خلال العقود الماضية وازدادت حدتها مع اندلاع الحرب وتبعاتها… ومن أهم الأسباب التي ساهمت في تصاعد هذه الأزمة، ارتفاع معدل النمو السكاني، إذ تضاعف عدد السكان ثلاث مرات بين عامي 1970 و2004، في مقابل معدلات نمو اقتصادي متذبذبة وضعيفة، وانخفاض في معدلات الاستثمار.
كما ساهم سوء توزيع الثروات في تعميق المشكلة من ناحيتين: أولاً، عبر نزوح رؤوس الأموال إلى خارج البلاد نتيجة تركّز الثروات، ما حرم الاقتصاد المحلي من استثمارات ضرورية، وثانياً، بسبب التفاوت الكبير بين الدخل لمعظم السكان والأسعار السائدة، ما أضعف من قدرتهم الشرائية مع ارتفاع في الأسعار والذي أثّر سلباً على التشغيل والاستثمار.
إلى جانب ذلك، أدت محدودية الموازنة العامة -أي أن الموارد المالية للدولة لتمويل أنشطتها محدودة- وما يخصص منها للتعليم والتدريب المهني إلى تراجع مستوى التأهيل، إضافة إلى بطء خلق فرص عمل حقيقية قادرة على استيعاب الأعداد المتزايدة من الخريجين… كما ساهم الإبقاء على عدد كبير من الموظفين بعمر التقاعد في وظائفهم في تقليص فرص التوظيف الجديدة.
وخلال سنوات الحرب، تعقدت هذه الأزمة نتيجة الأضرار التي لحقت بالبنية الصناعية والتجارية، وتوقف الاستثمارات الأجنبية في البلاد، وتدهور أداء القطاع الخاص، فضلاً عن ارتفاع الأسعار وتدني الأجور، المترافقين مع انخفاض حاد في قيمة الليرة السورية، والذي ذكرنا أسبابه بالتفصيل في مقال سابق.
أما اليوم، وفي ظل التحولات السياسية والاقتصادية التي أعقبت سقوط النظام، يعيش سوق العمل مرحلة غامضة وضبابية، وسط وعود حكومية بالانتقال إلى اقتصاد حر وتوسيع الخصخصة، إلّا أن غياب إستراتيجية واضحة ومدروسة أدى إلى حالة من الإرباك بين المواطنين، انعكست على توقف بعض المشاريع المحلية، وظهور أخرى بشكل غير منظم.
وفي ذات السياق، ساهمت عودة مئات الآلاف من المهجّرين إلى سوريا -بحسب المفوضية السامية للأمم المتحدة لشؤون اللاجئين في أيار الجاري- في زيادة الضغط على سوق العمل والمترافقة مع بيئة اقتصادية غير جاهزة لاستيعاب هذه الأعداد الكبيرة، ومع تفشي الاعتماد على الأعمال الموسمية وتراجع الإقبال على الوظائف الحكومية.
إذ تشهد المؤسسات الحكومية، رغم الاستغناء عن أعداد كبيرة من الموظفين، ضعفاً في الحوافز، ويعاني الموظفون من تأخر صرف الرواتب، وصعوبة في سحب مستحقاتهم، ما أدى إلى تراجع في حجم الإنتاج وضعف النشاط الاقتصادي العام.
اقرأ أيضاً: كيف سيؤثر قرار رفع العقوبات على الاقتصاد السوري؟
آراء الخبراء بين الأسباب والحلول
تتعدد آراء الخبراء حول أسباب ارتفاع معدل البطالة في سوريا في ظل الواقع الاقتصادي المتقلب الذي تعيشه البلاد منذ سنوات.
أكد الأستاذ في كلية الاقتصاد بجامعة دمشق، مجدي الجاموس، في تصريح إعلامي أجراه العام الماضي، أن معدل البطالة في سوريا تجاوز 37%، بينما بلغت نسبة البطالة المقنّعة أكثر من 85%، وهي نسبة تعكس خللاً كبيراً في سوق العمل. تشير البطالة المقنّعة إلى ضعف إنتاجية شريحة كبيرة من القوى العاملة، إذ يتم توظيف عدد من العاملين يفوق الحاجة الفعلية، دون مساهمة واضحة في الناتج المحلي الإجمالي.
من جانبه، يشير الدكتور شفيق عربش، أستاذ الاقتصاد في جامعة دمشق، إلى أن الاقتصاد السوري مشلول بشكل شبه كامل، نتيجة هجرة الكفاءات واليد العاملة، ما انعكس بشكل مباشر على أداء القطاعات الإنتاجية، التي باتت تعمل بأقل من طاقتها
أما الخبير الاقتصادي عبد العظيم المغربل، الباحث في مركز جسور للدراسات، فقد حذّر من تداعيات البطالة المستمرة، مؤكداً أنها تزيد من حالة الجمود الاقتصادي وتعرقل حركة التنمية، كما أشار إلى أن تفشي البطالة يؤدي كذلك إلى أزمات اجتماعية متزايدة، مثل ارتفاع معدلات الجريمة وتنامي المشكلات المجتمعية المرتبطة بالفقر وانعدام الدخل.
وفي تحليل لمشكلة البطالة في الوقت الحالي، يرى الدكتور هاني حداد، خبير الموارد البشرية، أن حالة عدم اليقين الاقتصادي الحالية تدفع العديد من أصحاب المصانع والورشات إلى التوقف عن العمل، ما يؤثر سلباً على سوق التوظيف، ولكنه في الوقت نفسه يأمل في أن يؤدي رفع العقوبات الاقتصادية إلى جذب استثمارات خارجية تخلق فرص عمل واسعة، وتساهم في إعادة إنعاش السوق، لا سيما في صفوف الشباب الباحثين عن فرص.
بدورها، أفادت الباحثة الاقتصادية رشا سيروب في تصريح إعلامي، بأن عودة مئات الآلاف من المهجّرين والمغتربين، إضافة إلى نحو مليون نازح إلى مناطقهم، ساهمت في ارتفاع معدلات البطالة، لأن هذه الأعداد لم تكن مشمولة ضمن الإحصاءات الرسمية السابقة، ما أدى إلى تضخم غير محسوب في سوق العمل.
ولمواجهة هذا التحدي، ترى سيروب أن الحلول المبدأية تتطلب دمج العائدين في السوق من خلال توفير فرص للتعليم والتدريب المهني، بهدف تأهيلهم لمزاولة أعمال إنتاجية، كما تؤكد على ضرورة رفع القدرة الشرائية للمواطنين من خلال زيادة الأجور، باعتبارها خطوة أساسية لتحريك عجلة الاقتصاد وتعزيز فرص التوظيف.
ختاماً، تعدّ البطالة في سوريا من أبرز التحديات التي تعيق عملية التعافي الاقتصادي والاجتماعي، فأبعادها تتجاوز فقدان فرص العمل وتمتد لتؤثر على مستوى المعيشة والاستقرار النفسي للمواطنين… وللتغلب على هذه الأزمة، نحتاج إلى تكامل وتكثيف الجهود خلال الفترة القادمة، من خلال التركيز على إعادة تنشيط الاقتصاد، وتحفيز الاستثمارات، وتوفير بيئة عمل مستدامة، للوصول في النهاية إلى الاستقرار في سوق العمل من أجل بناء مستقبل أفضل لسوريا.
اقرأ أيضاً: وزارة الاقتصاد والصناعة تصدر قرارات لتسهيل عمل المنشآت الصناعية في سوريا