الكاتب: أحمد علي
ليست السجون مجرد جدران تحبس خلفها البشر، بل هي مرايا عاكسة لقيم العدالة والإنسانية في أي مجتمع. وفي سوريا، حيث شهدت السجون قصصاً مأساوية تتناقض مع أبسط معايير حقوق الإنسان، يبرز سؤال ملحّ: كيف يمكن تحويل هذه الأماكن من فضاءات للقمع إلى مراكز إصلاح حقيقية؟ هذا المقال يستعرض واقع السجون السورية، ويستلهم تجارب عالمية، ويكشف عن محاولات تاريخية محلية قد تكون شمعة في نفق الإصلاح.
سجون سوريا تحت المجهر
تشير تقارير منظمة العفو الدولية (Amnesty International) ومنظمة هيومن رايتس ووتش (Human Rights Watch) إلى أن السجون السورية تُعد من بين الأسوأ عالمياً، حيث تُوثَّق حالات ازدحام شديد تصل إلى حدود تتجاوز طاقتها الاستيعابية، ونقص فادح في الرعاية الطبية، وممارسات تعذيب منهجية. فسجن صيدنايا (Sednaya) على سبيل المثال، والذي يُطلق عليه الناجون اسم “المسلخ البشري”، يحكي قصصاً عن إعدامات جماعية دون محاكمة، وفقاً لتقرير لجنة التحقيق الدولية التابعة للأمم المتحدة (2017).
لماذا الإصلاح ضرورة؟
استناداً للمعطيات السابقة، يبدو جليّاً الحاجة إلى إصلاح السجون، وذلك لعدة أسباب مترابطة تتعلق بالسلام المجتمعي، والالتزامات القانونية، والآثار الاقتصادية.
فمن منظور اجتماعي، فإن استمرار السجون بوضعها الحالي يُسهم في تفاقم العنف داخل المجتمع. فالسجين الذي يخرج من المعتقل دون أن يحظى بفرصة لإعادة التأهيل أو الدعم النفسي والاجتماعي، غالباً ما يكون عرضة للعودة إلى سلوكيات عنيفة، مما يُهدد الاستقرار الاجتماعي ويُعيق جهود المصالحة الوطنية.
وعلى الصعيد القانوني، انضمت سوريا إلى اتفاقية مناهضة التعذيب (CAT) في عام 2004، مما يُلزمها باتخاذ تدابير فعّالة لمنع التعذيب وغيره من ضروب المعاملة القاسية أو اللاإنسانية أو المهينة. ومع ذلك، تشير التقارير إلى أن الحكومة السورية لم تُدرج أحكام هذه الاتفاقية في قوانينها الوطنية، مما يُضعف من فعالية الالتزامات الدولية ويُبرز الحاجة الملحة لإصلاح النظام القانوني بما يتماشى مع المعايير الدولية.
من الناحية الاقتصادية، فإن الإبقاء على نظام سجون غير فعّال يُشكّل عبئاً مالياً كبيراً على الدولة. فالتكاليف المرتفعة المرتبطة بإعادة الإجرام، والعنف المجتمعي، والرعاية الصحية للسجناء، تفوق بكثير الاستثمارات المطلوبة لتنفيذ برامج إعادة التأهيل والتدريب المهني داخل السجون. بالتالي، فإن إصلاح السجون يُعدّ استثماراً طويل الأمد يُساهم في تقليل النفقات العامة وتعزيز الإنتاجية المجتمعية.
اقرأ أيضاً: صيدنايا: مدينة القداسة والتاريخ.. لا سجن الرعب والدماء!
نماذج عالمية: عندما تصبح السجون مدارسَ
هناك تجارب دولية ملهمة تقدم نماذج ناجحة في مجال السجون. ففي النرويج، يُعد سجن هالدن Halden مثالاً رائداً على هذا التحول. صُمم السجن ليشبه الحرم الجامعي، حيث يتم التركيز على التعليم والعلاج النفسي، مما أسهم في خفض معدل العودة إلى الجريمة إلى حوالي 20% بعد عامين من الإفراج، مقارنةً بمعدلات أعلى في دول أخرى.
أما في ألمانيا، فقد تم اعتماد برامج تعليمية ومهنية داخل السجون، تهدف إلى إعادة تأهيل السجناء ودمجهم في المجتمع بعد الإفراج. وتُظهر الدراسات أن توفير فرص التعليم والتدريب المهني داخل السجون يسهم في تقليل احتمالات العودة إلى الإجرام، وتحسين فرص الحصول على عمل بعد الإفراج. وكمثال على ذلك يمكن أن نذكر سجن تيغيل في برلين، حيث أظهرت دراسة أن السجناء الذين خضعوا لعلاج اجتماعي (يشمل العلاج النفسي والتعليم والتدريب الاجتماعي) كان لديهم معدل عودة إلى الجريمة بنسبة 35.9%، مقارنة بـ59.1% للسجناء الذين لم يتلقوا مثل هذا العلاج. (مصدر)

وكذلك، في رواندا، بعد الإبادة الجماعية عام 1994، تم تنفيذ برامج تهدف إلى المصالحة الوطنية وإعادة بناء المجتمع. وشملت هذه البرامج تحويل السجون إلى مراكز إصلاح زراعية، حيث يعمل السجناء مع ضحاياهم في نموذج فريد للمصالحة. وتم إنشاء «قرى المصالحة» مثل قرية «مبيو» في منطقة بوجيسيرا، حيث يعيش الناجون من الإبادة الجماعية والجناة السابقون معاً. في هذه القرى، يشارك السكان في أنشطة مشتركة مثل نسج السلال وبرامج التوفير، مما يعزز التعايش السلمي والمصالحة العملية. ووفقاً لتقرير وكالة أسوشيتد برس، يعيش في قرية مبيو حوالي 382 شخصاً، وتلعب النساء دوراً محورياً في تعزيز الوحدة من خلال هذه الأنشطة المشتركة.
ووفقاً لمؤشر المصالحة الوطني لعام 2020، بلغت نسبة المصالحة في رواندا 94.7%، مما يعكس تقدماً كبيراً في جهود التعايش السلمي. (المصدر)
قصة توماس موت أوزبورن (Thomas Mott Osborne)
بعيداً عن تجارب الدول بشكل عام، لكن ضمن السياق ذاته، يروى أنه في عام 1914، تم تعيين توماس موت أوزبورن مديراً لسجن سينغ سينغ في نيويورك، الولايات المتحدة. قبل توليه المنصب، قرر أوزبورن تجربة الحياة داخل السجن بنفسه، فقضى أسبوعاً كاملاً في سجن أوبورن تحت اسم مستعار، حيث عاش كأي سجين آخر دون أن يكشف عن هويته. هدفت هذه الخطوة إلى فهم الظروف الحقيقية التي يعيشها السجناء. بعد هذه التجربة، قام أوزبورن بإدخال إصلاحات جذرية في نظام السجن، بما في ذلك تأسيس «رابطة الرفاهية المتبادلة» التي منحت السجناء دوراً في إدارة شؤونهم الداخلية، مما ساهم في تحسين الأوضاع داخل السجن.
وعلى الرغم من عدم توفر إحصاءات دقيقة حول معدلات العودة إلى الجريمة خلال فترة أوزبورن، إلا أن هناك مؤشرات على تحسن الأوضاع داخل السجن. ففي كتابه «المجتمع والسجون – Society and Prisons: Some Suggestions for a New Penology»، أشار أوزبورن إلى انخفاض عدد الإصابات الناتجة عن العنف داخل السجن، وتحسن الحالة النفسية للسجناء .
اقرأ أيضاً: رواندا.. «العدالة الانتقالية» وإعادة الإقلاع ما بعد الحرب!
التعاون الدولي: حل أم وهم؟
في ظل التحديات التي ستواجهها سوريا في مجال إصلاح السجون، يُطرح التساؤل حول دور التعاون الدولي في تحقيق تقدم ملموس، فيما تُظهر التجارب العالمية أن التعاون مع المنظمات الدولية يمكن أن يكون أداة فعّالة للإصلاح، بشرط توفر الإرادة السياسية والشفافية.
وتُعدّ الأمم المتحدة، من خلال مكتبها المعني بالمخدرات والجريمة (UNODC)، من أبرز الجهات الداعمة لإصلاح السجون عالمياً. حيث يقدم المكتب مساعدات تقنية للدول الأعضاء، تشمل تطوير البنية التحتية للسجون، وتدريب الكوادر، وتطبيق المعايير الدولية مثل «قواعد نيلسون مانديلا» الخاصة بمعاملة السجناء. كما يعمل على تعزيز البدائل غير الاحتجازية للعقوبات، مثل برامج العمل المجتمعي، بهدف تقليل الاكتظاظ وتحسين فرص إعادة التأهيل.
لذلك، يمكن القول إن التعاون الدولي ليس وهماً، بل هو أداة فعّالة للإصلاح، بشرط توفر الشفافية والإرادة السياسية. لكن في الحالة السورية، يبقى التحدي الأكبر هو فتح المجال أمام المنظمات الدولية للعمل بحرية داخل البلاد، وتوفير بيئة تسمح بتنفيذ برامج إصلاحية حقيقية لأن إصلاح السجون ليس ترفاً حقوقياً، بل ضرورة لبناء سلام مستدام.