مدينة إدلب حاضره من الحواضر السورية الغنية بالثقافة والتراث، تحتضن العديد من الأوابد التاريخية والآثار التي تحكي أصالة هذه المدينة وعراقتها، فالإرث الثقافي والتراثي لم يغب عن إدلب حتى في أحلك الظروف. قاومت بتراثها وثقافتها وصمدت في سنين الحرب وبقيت جسور الثقافة ممتدة فيها حتى في أحلك الظروف. وربطت ماضيها بحاضرها، وها هي الآن تتطلع لمستقبلها بإعادة افتتاح مركزها الثقافي بحلته الجديدة وبذاكرة مليئة بالثقافة والتراث والثورة.
المركز الثقافي المفتتح ليس تقليدياً، فموقعه بمدينة كإدلب، عاشت ما عاشته، يجعله حاضن لثقافة نشأت قبل الحرب وبها وبعدها، وكونت تراث وبعد وعمق آخر لهذه المدينة، ما يفتح لنا الأبواب للتعرف على إرث الخضراء إدلب ما قبل الحرب وأثنائها وبعدها.
الهوية والتراث الثقافي في إدلب قبل 2011
مشبعة بالتاريخ والتراث، هكذا هي إدلب، وموقعها الجغرافي أكسبها طابعاً متنوعاً من الثقافة ومفعماً بالتراث والتقاليد.
تعاقبت عليها العديد من الحضارات كالآرامية والحثية والآشورية والفينيقية والرومانية والبيزنطية، ما أكسبها ثراءً أثرياً وثقافياً. تتزين إدلب بالعديد من المواقع الأثرية التي تختزل وتترجم عراقة المكان وعبقه الثقافي.
فالفنون والحرف اليدوية تشكل هوية المدينة الثقافية، حيث تعرف بالمنتجات اليدوية عالية الجودة كالسجاد اليدوي والمصنوعات الفخارية، ناهيك عن الفلكلور الشعبي المتأصل في عروق سكانها، ما يعطي جمالية للحياة الثقافية في المدينة.
كيف لا يبرع الإدلبيون بصناعة الفخار، وهم بعروقهم حضارة إيبلا؟
فمدينة إيبلا من أبرز المواقع الأثرية في المدينة وتعد من أبرز المراكز الحضرية في الشرق الأدنى القديم، وتضم أكثر من 17,000 لوح طيني والعديد من الأواني الفخارية المصنوعة بدقة وحرفيه، تراث إدلب لا يقف عند إيبلا، بل يكمل ليضم العديد من المواقع الأثرية إلى جانبها والتي تعود لفترات تاريخية مختلفة متنوعة ما بين: قلاع رومانية وبيزنطية، معابد فينيقية، كنائس قديمة وغيرها.
إن كان هذا ماضي إدلب التراثي والثقافي، لنتعرف على حاضرها في العام 2010:
أقامت مديرية المسارح والموسيقى بالتعاون مع محافظة إدلب، للعام الرابع على التوالي مهرجان “إدلب الخضراء للفنون الشعبية”، الذي شكل في ذلك الوقت رديفاً لمهرجان بصرى الدولي للفنون الشعبية، وكان هذا المهرجان ينافس المهرجات الشعبية في باقي المحافظات السورية.
وتحدث وزير الثقافة آنذاك عن أهمية هذا المهرجان في حفظ تراث الآباء والأجداد وعاداتهم وتقاليدهم، لذلك كان طموح وزارة الثقافة أن تجعل هذا المهرجان في ذلك الوقت مهرجاناً عربياً ومن ثم دولياً عبر مشاركة فرق عربية وأجنبية.
كما وأضاف وزير الثقافة في حفل الافتتاح الذي جرى في المسرح المكشوف أن الوزارة أدرجت المزيد من المشروعات الثقافية لهذه المدينة، أولها البدء ببناء المسرح القومي بتكلفة 100 مليون ليرة سورية، إضافة لتأهيل معهد للموسيقى ومشروع بناء متحف جديد ومتابعة العمل في تطوير متحف ايبلا ضمن المشروع الايطالي السوري المشترك.
تخلل المهرجان، عرض فيلم وثائقي عن مهرجان الفنون الشعبية في دوراته السابقة، وقام السيد وزير الثقافة ومعه محافظ إدلب ومدير المسارح والموسيقى بتكريم عدد من الفنانين الذين تركوا بصماتهم في حقل الفنون الشعبية، أبرزهم عبد القادر شاباش الذي يعتبر من أهم العاملين في مجال الفنون الشعبية في محافظة إدلب منذ خمسينيات القرن الماضي، كما كان عضوا في فرقة البكار للفنون الشعبية.
ثم تابع المهرجان حفل افتتاحه بإطلاق الألعاب النارية في سماء المحافظة وبحضور الآلاف من المواطنين، كما قدم عروضاً فنية نفذتها “فرقة شباب إدلب”.
وقد شاركت المحافظة بهويتها عبر ثلاث، فرق فقد نجحت “فرقة إيبلا” بتقديم لوحة فنية للعرس الشعبي في المحافظة وطقوس الحناء بكل الأغاني والأهازيج والرقصات المعروفة في هذه المناسبة.
ناهيك عن معارض كتاب وندوات ثقافية ومعارض حرف يدوية أغنت الثقافة الإدلبية في ذلك الوقت وأبرزتها كجزء من النسيج الثقافي السوري على العموم.
اقرأ أيضاً: مهرجان منتج بلدنا 2025
إرثها الثقافي أثناء الحرب بعد 2011
منذ تحرير المدينة كانت الحياة الثقافية شبه منعدمة، فلم يكن هناك أي تشجيع عليها أبداً نظراً لظروف الحرب والحالة الأمنية التي سادت، إلى جانب هجرة معظم الفنانين إلى خارج البلاد.
لكن في عام 2018 تم إعادة تأهيل المركز الثقافي وافتتاحه، ثم بدأ ضمن شروط توفر الحد الأدنى من مقومات العمل الفني.
عرض فيه عدد من المسرحيات التي تحاكي مشاكل الناس وطموحاتهم، مثل مسرحية طب القاطع ومسرحية سرداب الموت، وكان لعرض تلك المسرحيات أثر كبير في نفوس الحاضرين، إذ أن مدرجات المسرح امتلأت عن آخرها.
كذلك عُرضت فيها لوحات لفنانين يقيمون في المناطق المحررة عبر العديد من المعارض الفنية التي أقيمت، مثل معرض الفنان المتخصص بالمدرسة التكعيبية عمار سفلو والفنان التشكيلي عدنان كدرش .
وفي تصريح لأحد العاملين في المركز الثقافي، وسؤاله عن إحياء الحياة الثقافية وأبرز ما يواجهها فقال:
“الأمور تسير نحو الأفضل ومن الطبيعي أن تظهر الثقافة في المحرر بشكلٍ ضعيفٍ وبدائيّ، بعد كل سنوات الحرب، اليوم نشاهد تشجيعاً على العمل الثقافي والفني ولكن ضمن حدود الشرع والدين”
لكن في تلك الفترة العمل الفني في الشمال السوري وبالأخص في المدينة، كان يعاني من نقص وشح في الرصد المالي للأعمال الفنية، وعدم اهتمام من المنظمات بالعمل الثقافي أو الفني، فكان التركيز والجهد ينصب على الإغاثة.
وتم إطلاق “معرض إدلب الأول للكتاب” الذي افتتح في “المركز الثقافي” عام 2021، وأتى بعد أيام من افتتاح معرض مماثل للكتاب في مدينة إعزاز بريف حلب الشمالي.
أشار المنظّمون إلى أن المعرض الذي يقام للمرة الأولى بعد ما عاشته المدينة، يأتي بعد تراجع النشاط الفكري والثقافي في المدينة على وقع المعارك وما تبعها من نزوح واشتباكات، وشاركت فيه سبع دور نشر تحت شعار “قارئ اليوم قائد الغد”.
المعرض ضم ستّة آلاف عنوان في مختلف حقول المعرفة، وتخلله نشاطات ثقافية من أمسيات شعرية وحفلات توقيع كتب.
كما يذكر أن عدداً من معارض الكتب أقيمت خلال الأعوام الماضية لكن بعضها لم تنتظم إقامته، حيث احتضنت “جامعة إدلب” معرضاً عام 2019، كما أقيم معرض لكتب الأطفال في بلدة حزانو شمال إدلب في السنة ذاتها.
اقرأ أيضاً: السياحة الثقافية في سوريا والجذب الثقافي
المركز الثقافي بحلة بجديدة بعد رحلة من المُحرر إلى التحرير الكامل
برعاية وزارة الثقافة، افتتح في مدينة إدلب في شهر حزيران 2025 المركز الثقافي، حيث أكد وزير الثقافة السيد محمد ياسين صالح خلال الافتتاح : “أن إدلب تمثّل المحطة الأولى في مشروع ثقافي وطني يمتد ليشمل سائر المحافظات، انطلاقاً من رؤية الوزارة التي تُعلي من شأن الثقافة، بوصفها ركيزة للتحول السياسي والاجتماعي، وأداة لإعادة بناء الثقة بين الدولة والمجتمع، ومجالاً للتلاقي والتعبير الحر”.
كما أشار محافظ إدلب السيد محمد عبد الرحمن إلى أهمية إعادة تفعيل المؤسسات الثقافية في هذه المرحلة المفصلية، فيما استعرض مدير الثقافة في إدلب السيد خالد يوسف الحاج جاسم، الأفق الجديد الذي يفتحه المركز أمام الحراك الثقافي في المحافظة.
برنامج الافتتاح قدم عرضاً مسرحياً بعنوان “اسمي انتهى”، وقصيدة شعرية بعنوان “النصر” ألقاها الشاعر حذيفة العرجي، إلى جانب فقرة شعرية مفتوحة شارك فيها عدد من الشعراء عبّروا من خلالها عن روح المرحلة وتطلعاتها.
ورافق الافتتاح، عدد من المعارض الفنية المتنوعة، شملت فنون الرسم التشكيلي والخط العربي والفسيفساء والحِرَف اليدوية، في ترجمة مذهلة لتنوّع التعبير الثقافي المحلي وغناه في إدلب.
ختاماً، إدلب كنز سوري ثقافي أصيل، رافقتها الثقافة من المحرر إلى التحرير الكامل لتنسج هوية هذه المدينة العريقة والمحبة، وتجذر أصالتها وتنشر عبق تراثها الممتد منذ سنين. افتتاح المركز الثقافي امتداد لهذا التراث ونمو لهوية ثقافية أصيلة مشبعة بالتاريخ، بارزة في الحاضر، متطلعة وبانية للمستقبل.
اقرأ أيضاً: عبير نصر: قطيعُ “المظاليم” السوريّ وثقافةُ القطيعة