الكاتب: أحمد علي
لم يكن قرار وزارة الاقتصاد والصناعة القاضي بوقف استيراد السيارات المستعملة في سوريا مفاجئاً للمطلعين على مجريات قطاع النقل، بل كان أقرب إلى استجابة حتمية للفوضى التي رافقت فترة السماح المؤقت. القرار جاء في وقت بدا فيه السوق المحلي كمن يمشي على حبل رفيع بين رغبة المواطنين في امتلاك وسيلة نقل بأسعار منخفضة، وبين غياب الرقابة على جودة ما يتم استيراده من مركبات، معظمها أرهقته الحوادث أو ابتلعته مياه السيول في بلدان المنشأ.
وقف استيراد السيارات المستعملة في سوريا
شهدت المرحلة التي فُتح فيها باب استيراد السيارات المستعملة حالة من العشوائية غير المسبوقة، لا من حيث نوعية السيارات ولا من حيث طريقة دخولها إلى البلاد. فقد كشفت الإحصائيات شبه الرسمية أن نحو 80% من السيارات المستوردة خلال فترة السماح أتت من دول الإقليم، بينما لم تتجاوز حصة السيارات القادمة من أوروبا 20%.
الغالبية العظمى من هذه المركبات كانت تعاني من مشاكل تقنية وفنية خطيرة، بينها سيارات تعرضت للغرق أو كانت شبه تالفة، لتُطرح لاحقاً في السوق المحلي بأسعار مغرية للمواطن المتعطش لامتلاك سيارة بعد سنوات الحرب.
وفقاً لما صرّح به عبد اللطيف شرتح، مدير استيراد السيارات في وزارة النقل، فإن عدد السيارات المستعملة التي دخلت سوريا منذ بدء السماح وحتى قرار التوقف، بلغ نحو 100 ألف سيارة، بقيمة إجمالية قُدّرت بثلاثة مليارات دولار أمريكي. وهو رقم يُعدّ مرعباً في بلد يحاول النهوض من تبعات حرب مدمرة، ويُسلّط الضوء على حجم النزيف في العملات الصعبة الذي شهده هذا القطاع خلال فترة قصيرة نسبياً.
في الاتجاه الصحيح.. ماذا عن الفقراء؟
في حديثه حول القرار، وصف الخبير الاقتصادي الدكتور محمد ياسين زكريا القرار بـ «الصائب» و«المدروس»، مؤكّداً أنه جاء ليحمي المواطن قبل الدولة. ففي رأيه، فإن القرار لم يكن يهدف فقط إلى وقف الفوضى، بل أيضاً إلى الحفاظ على كرامة المواطن الذي وقع ضحية لجشع بعض التجار، حيث تم استيراد سيارات بمواصفات متدنية بهدف بيعها بأسعار منخفضة دون الالتفات إلى العواقب الميكانيكية والبيئية والصحية لاستخدامها.
زكريا أوضح أن الفرضية الاقتصادية تقول: «البضاعة الجيدة تطرد الرديئة من السوق»، ما يعني أن التوجه لاستيراد سيارات جديدة، مع توفير خيارات تقسيط، سيؤدي تدريجياً إلى تراجع الطلب على المستعمل، وبالتالي انخفاض أسعاره.
ومن جانبه، رأى الخبير الاقتصادي فراس شعبو أن قرار الحكومة السورية بمنع استيراد السيارات المستعملة يحمل في مضمونه منطقاً اقتصادياً مشروعاً، خاصة في ظل الأرقام التي تشير إلى أن قطاع السيارات استنزف بمقدار يعادل قرابة ثلثي ميزانية الدولة للعام 2023 البالغة 3.5 مليارات دولار. غير أن شعبو حذّر من أن الآلية التي طُبّق بها القرار جاءت بنتائج عكسية، إذ أدى تقييد الاستيراد بالسيارات الحديثة فقط إلى ارتفاع كبير في الأسعار، ما أخرج الشرائح الأضعف من السوق، وفي مقدمتهم ذوو الدخل المحدود. فوفق قوله، فإن السيارات التي تستوفي الشروط الجديدة تُسعّر ما بين 20 إلى 25 ألف دولار، وهي مبالغ خيالية بالنسبة لغالبية السوريين.
واعتبر أن المشكلة لا تكمن فقط في قرار المنع، بل أيضاً في غياب نظام فني صارم لفحص السيارات قبل دخولها، داعياً إلى تشكيل لجنة فنية مختصة تُعنى بضبط الجودة وتقديم مقترحات بديلة، مثل السماح باستيراد سيارات موديل 2016 وما بعدها بشرط المواصفات، عوضاً عن الحظر الكلي. كما انتقد شعبو التذبذب في السياسات الحكومية وعدم اتباع نهج تدريجي في اتخاذ القرارات، مؤكداً أن السوق يحتاج إلى مقاربة متوازنة تحفظ مصالح الدولة دون التضحية بالقدرة الشرائية للمواطن.
وفي السياق نفسه، أشار عبد الملك الأخرس، وهو تاجر سيارات يستورد مركبات من أوروبا وأفريقيا، إلى أن القرار سيفتح باب الأرباح الواسعة أمام من استوردوا مركبات قبل صدوره، بفعل ارتفاع الطلب قبيل بدء تطبيقه الكامل، لكنه لم يُخفِ قناعته بأن القرار مجحف بحق الفقراء والطبقة المتوسطة، مشيراً إلى أن السيارات الحديثة تجاوزت 25 ألف دولار، في حين أن المستعملة الجيدة كانت تُباع بأسعار تراوح بين 3 إلى 5 آلاف دولار، ما شكّل خياراً مقبولاً وواقعياً لشريحة واسعة من السوريين.
استثناءات لخدمة الإنتاج والخدمات
القرار لم يكن شاملاً لكل أنواع المركبات، بل استثنى بعض الفئات الضرورية، مثل «الرؤوس القاطرة، الشاحنات، آليات الأشغال العامة، الجرارات الزراعية، والحافلات التي تتسع لأكثر من 32 راكباً»، وذلك لأهمية هذه الآليات في دعم القطاعات الصناعية والزراعية والخدمية. فاستيراد المستعمل من هذه الآليات يخفض تكاليف الإنتاج ويصبّ في مصلحة الاقتصاد الكلي.
ولم يقتصر الدافع خلف القرار على تقنين استيراد السيارات لحماية القطع الأجنبي، بل تعدّى ذلك إلى الاعتبارات البيئية، خاصة أن كثيراً من السيارات المستعملة المستوردة تعمل على الديزل، وتسببت بارتفاع مستويات التلوث في المدن، إضافة إلى أعباء الصيانة اليومية وندرة قطع الغيار، ما ضاعف من أزمات المستهلكين وخلق فوضى في الطرقات نتيجة الأعطال المتكررة.
الثغرة الوحيدة… والبدائل المنتظرة
يشير زكريا إلى أن النقطة الوحيدة التي قد تُحسب على القرار، هي حصر الاستيراد المستقبلي بالسيارات المصنعة قبل عامين فقط من سنة الاستيراد. ويقترح بديلاً أكثر مرونة، وهو فتح الباب لاستيراد سيارات مصنّعة خلال السنوات الخمس السابقة، شرط خضوعها لفحوصات فنية صارمة.
كما توقع أن يكون القرار مقدمة لسلسلة من الإجراءات تهدف إلى تجديد أسطول السيارات في البلاد، بحيث لا تبقى أي مركبة في السوق يزيد عمرها عن 10 سنوات، في خطوة من شأنها رفع مستوى الأمان والكفاءة في قطاع النقل.
السوق ستتأقلم… ولا داعي للهلع
من جهته، قلل سيف شيخ الحدادين، وهو صاحب مكتب لبيع السيارات، من المخاوف المرتبطة بارتفاع الأسعار، معتبراً أن السوق السورية، كبقية الأسواق، تتأثر بقوانين العرض والطلب أكثر من تأثرها بأي قرار حكومي. وأضاف أن الجمود المتوقع بعد القرار لن يستمر طويلاً، لأن السيارات الحديثة ستجذب المستهلك أكثر، ما سيؤدي إلى تراجع الطلب على السيارات القديمة، ويجبر التجار على تخفيض الأسعار.
ختاماً، لا يمكن اعتبار قرار وقف استيراد السيارات المستعملة تقييداً لخيارات المواطن، بل هو خطوة نحو سوق أكثر تنظيماً، وبيئة مرورية أكثر أماناً، واقتصاد أكثر استقراراً. وإذا ما ترافق القرار مع سياسات تمويل مرنة تتيح للمواطن شراء سيارة حديثة بالتقسيط أو بأسعار مدروسة، فإن النتائج ستكون إيجابية على كل المستويات، من المواطن إلى الدولة.
اقرأ أيضاً: شركة فرنسية تتعهد بتأهيل عشرات الجسور في سوريا
