وادي السيليكون السوري… اكتشاف جديد قديم قد يشكّل نقطة تحوّل في مسار الاقتصاد السوري المتداعي، فمادة السيليكون تُعدُّ حجر الأساس في تصنيع الشرائح الإلكترونية الأكثر دقة في العالم، وبالرغم من وجود دراسات كثيرة تؤكد احتواء الرمال السورية في عدد من المناطق على السيليكون إلا أنه إلى الآن لم يتم البدء بشكل حقيقي باستخراجه، فهل نحن على أعتاب ثورة “تكنولوجية” في سوريا؟
الرمال السيليسية في سوريا
في مدينة حسياء، الواقعة على بُعد 35 كيلومتراً إلى الجنوب من حمص، تتربع واحدة من أهم المناطق الصناعية في البلاد. موقعها الاستراتيجي على طريق M5 الواصل بين دمشق وحمص، وامتدادها بين جبال القلمون، وجبال حسياء، وجبال حمص الجنوبية والغربية، يمنحها ميزة جغرافية فريدة، غير أن الأهم من الموقع هو ما تخبئه جبالها من ثروات طبيعية.
فحسياء تزخر بجبالٍ ضخمة مكوّنة من الرمال السيليسية أو ما يُعرف بـ”رمال الكوارتز”، وهي المصدر الرئيسي لاستخلاص السيليكون والسيليكات.
تُعد سوريا من الدول الغنية برمال السيليكا ذات النقاوة العالية، وتتركز هذه الثروة الطبيعية بشكل أساسي في منطقة القريتين الواقعة شرق محافظة حمص. ويُقدّر حجم الاحتياطي في هذه المنطقة بنحو 195 مليون طن، حيث تصل نسبة السيليكا في الرمال إلى حوالي 99%، وفقاً لعدد من المصادر الإعلامية، ما يجعلها ملائمة للعديد من الصناعات، مثل صناعة الزجاج والسيراميك.
كما تشير الدراسات الصادرة عن المؤسسة العامة للجيولوجيا والثروة المعدنية إلى أن الاحتياطي الجيولوجي الإجمالي لرمال السيليكا في سوريا يتجاوز 672 مليون طن، مما يعكس وفرة هذه المادة الخام على مستوى البلاد.
وتُعد هذه الموارد فرصة اقتصادية واعدة لسوريا، إذ يمكن توظيفها في دعم وتوسيع الصناعات المحلية، وزيادة حجم الصادرات، الأمر الذي يسهم بدوره في تنشيط الاقتصاد الوطني وتعزيز نموه.
وفي دراسة أعدّتها هيئة الاستثمار السورية حول مشروع استخراج السيليكون من منطقة القريتين، تبيّن أن رمال السيليكا هناك تُعد عالية النقاوة، ويبلغ الاحتياطي منها نحو 172 مليون طن.
يحتاج هذا المشروع إلى عامين للتأسيس، بكلفة تقديرية تتراوح بين 1.7 و3.5 مليون دولار، على أن تصل طاقته الإنتاجية إلى 45 ألف طن سنوياً، وتُقدّر عوائده السنوية بنحو 856 مليون دولار، فيما تبلغ فترة استرداد رأس المال نحو سنتين ونصف، إضافة إلى توفير العديد من فرص العمل، سواء لأصحاب الخبرة أو للعمال غير المتمرّسين، فضلاً عن الوظائف الإدارية.
وفي عام 2021، بدأت الخطوات التحضيرية الأولى لبناء أول معمل لإنتاج المشتقات السيليكونية في المدينة الصناعية بحسياء، ضمن مراحل زمنية متتالية تبدأ بإنتاج سيليكات الصوديوم، وماءات الصوديوم، وكربونات الصوديوم، وذلك ضمن مشروع “وادي السيليكون السوري” الذي كان يعمل على تنفيذه الدكتور طارق عفاش والدكتور علي سمحة.
وقد شكّلت الرمال السورية موضوع اهتمام ودراسة لدى العديد من الباحثين وطلاب الجامعات المتخصصة، ففي بحث للأستاذ نوزت النبغلي، والأستاذ عبد الرزاق حمال من جامعة حلب، تناول تحضير السيليكون النقي من الرمل السوري الخام المستخرج من منطقة النبك، أُجريت عدة اختبارات فيزيائية وكيميائية لتوصيف العينة، وتمت تنقيتها باستخدام الطريقة الحمضية الحرارية.
وقد أظهرت نتائج البحث إمكانية تحضير السيليكون النقي من الرمل السوري الخام بمردود مرتفع بلغ 94%، كما كشفت دراسة البنية السطحية للسيليكون المحضَّر أنه يتشكل على هيئة أنابيب نانوية، مع خشونة سطح واضحة.
اقرأ أيضاً: سيرياتيل تعتمد الشريحة الإلكترونية.. خطوة جديدة على طريق المنافسة مع (MTN)
السيليكون: جوهر التكنولوجيا الحديثة
السيليكون يُعدُّ أحد أشباه الموصلات الأساسية، ويُستخدم على نطاق واسع في الإلكترونيات كأجهزة الحواسيب، والهواتف المحمولة، ولوحات المفاتيح، وأسطوانات الطباعة. ويتميّز بقدرته على تحمّل الحرارة العالية، ومقاومته للضغط الحراري، واستقراره في البيئات الإلكترونية، فضلاً عن كونه مادة عازلة، ما يجعله مثالياً لتطبيقات النقل الحراري.
كما يُعتبر المكوّن الأساسي في تصنيع ألواح الطاقة الشمسية والخلايا الكهروضوئية، بفضل خصائصه التي تمكّنه من امتصاص الضوء وتحويله إلى طاقة، مما يفتح آفاقاً واسعة للطاقة المتجددة.
في مجال الطيران، يُستخدم السيليكون كمادة لاصقة ومانعة للتسرب لعزل النوافذ، والأبواب، وخزانات الوقود، وقنوات التهوية، والأسلاك، والأجنحة، كما يدخل في مواد البناء والهندسة المعمارية كمادة مانعة لتراكم البكتيريا، ويُستخدم في تدعيم الهياكل المعمارية دون التأثير على جودة المواد الأصلية، ويُوظَّف أيضاً في تصنيع أدوات الطهي، والملابس الرياضية، والدهانات، والطلاء.
أما السيليكا أو ثاني أكسيد السيليكون، فقد ثبتت فائدتها في علاج بعض الأمراض المزمنة، وبحسب العالم الألماني صموئيل هانيمان، تُستخدم السيليكا في علاج مشاكل الجهاز المناعي، ونزلات البرد، وأمراض الجلد، والإنفلونزا، والتهابات الأذن والثدي.
أما على الصعيد الصناعي، فتُستخدم في تصنيع الزجاج، والحجر، والسيراميك، والأحجار الكريمة، كما تدخل في صناعة المطاط، ومواد التجميل، ومعاجين الأسنان، والدهانات، وأحبار الطباعة، والمواد الكيميائية الزراعية.
نحو وادي السيليكون السوري: ما المطلوب؟
بالرغم من القيمة العالية للسيليكون والسيليكا، فإن استخلاصهما يتطلب بنية صناعية متقدمة، وقبل أي شيء يجب العمل على استخلاص مادة السيليكون من الرمال ومحاولة معالجته وبيعه وتصديره للخارج، حتى يتكون لدينا قاعدة تتناسب مع إنتاج كمية السيليكون الموجود وطريقة استخلاصه، ثم لتكوين رأس مال جيد للبدء ببناء وحدات صناعية.
في الخطوة التالية لتحقيق حلم “وادي السيليكون السوري”، ينبغي اتخاذ خطوات عملية نحو إعادة تأهيل منطقة حسياء بشكل مدروس يتناسب مع احتياجات مصانع السيليكون، مع توفير طاقة كهربائية مستقرة وقوية، ومياه عالية النقاء، ونظام متكامل لمعالجة النفايات الصناعية السامة.
ورغم أنّ الجهد المطلوب تراكمي، فيجب إعداد كوادر بشرية مؤهلة في مجالات الميكروإلكترونيات، وتقنيات التصنيع النانوية، ومعدات التصوير الدقيقة EUV، لضمان إنتاج شرائح إلكترونية مطابقة للمعايير العالمية، ومن المهم تجهيز “غرف نظيفة” عالية التعقيم لاستخلاص السيليكون النقي.
وقد أبدت شركات صينية اهتمامها بالمشروع، ووقّعت إحداها مذكرة تفاهم مع الحكومة السورية لتقييم المنطقة، مما يعزز احتمالية تحويل حسياء إلى مركز للصناعات الإلكترونية.
إنتاج السيليكون في العالم
بحسب المسح الجيولوجي الأمريكي لعام 2016، يُقدّر الإنتاج العالمي من السيليكون بنحو 7200 ألف طن، تحتل الصين المرتبة الأولى بـ 4600 ألف طن، تليها روسيا بـ 747 ألف طن، ثم الولايات المتحدة بـ 396 ألف طن، ثم النرويج، فرنسا، البرازيل، جنوب أفريقيا، إسبانيا، بوتان، آيسلندا، وغيرها من الدول.
وادي السيليكون الأول في العالم
أول وادٍ يحمل هذا الاسم يقع في منطقة خليج سان فرانسيسكو بالولايات المتحدة، وقد حملت هذه المنطقة اسم وادي السيليكون ليس لأنها تنتج كميات كبيرة منه، وإنما اكتسب تسميته بفضل تركّز شركات التكنولوجيا العالمية فيه مثل Microsoft، Google، Meta، Netflix، Apple وغيرها.
يمتد وادي السيليكون على مساحة 1854 ميلاً مربعاً، ويقطنه نحو ثلاثة ملايين نسمة، وتُعد مدينة سان خوسيه أكبر مدنه، كما أنها موطن جامعة ستانفورد وعدد من الجامعات الحكومية، مما ساعد في تعزيز بيئة البحث والتطوير (R&D).
وقد صاغ اسم “وادي السيليكون” الصحفي دون هوفلر عام 1971 في مقال نشرته مجلة Electronic News، في إشارة إلى الطفرة الكبيرة في عدد شركات أشباه الموصلات المعتمدة على السيليكون في وادي سانتا كلارا.
ختاماً، الحلم السوري بوادي السيليكون ليس مستحيلاً، لكن لا بد من توافر مقوماته الأساسية: الكهرباء، والماء، والاستثمار الحقيقي، فحين تتوفر هذه العناصر، يمكن أن يتحوّل الحلم إلى واقعٍ ينهض بالاقتصاد السوري نحو مستقبل أكثر إشراقاً.
اقرأ أيضاً: مشروع «برق نت»: هل ينجح في تحسين واقع الإنترنت في سوريا؟